في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي نهاية ثمانينات وأوائل تسعينات القرن الماضي، علا في الأفق تعبير، النظام العالمي الجديد، وقد كان صنوا لانفراد الولايات المتحدة الأميركية بمقدرات الكون، بعد انتصارها الساحق الماحق على السوفييت.
كان الرئيس الأميركي جورج بوش الأب هو صاحب ذلك التعبير في غالب الأمر، وقد فتح ذلك الانتصار شهية المحافظين الأميركيين الجدد، لبلورة مشروع القرن الأميركي، أي ذلك الذي يجعل من واشنطن سيدة العالم التي لا يدانيها أحد ولا تضارعها قوة طوال القرن العشرين.
واليوم وبعد ثلاثة عقود من هذا الحلم الأميركي، ترى هل لا تزال هناك إمكانية لاستمراره، أم أن واقع الحال تغير، بل وسيتغير في قادم الأيام بشكل أكبر؟
في منتصف عام 2008 وعبر مجلة الفورين آفيرز الشهيرة، بشر الدبلوماسي والمنظر السياسي الأميركي الشهير، ريتشار هاس، بأن عالما متعدد الأقطاب سوف يظهر عما قريب، وأن فكرة استئثار قطبين فقط حول العالم بأحوال الخليقة، لن تضحى فكرة صالحة عما قريب.
من هنا كانت بدايات أفول فكرة النظام العالمي الجديد، والبحث في دروب ما بعد ذلك النظام، وكيف سيكون شكل العالم في الفترة القادمة. والشاهد أن الانسحاب الأميركي من أفغانستان، قد أعاد التساؤل حول ملامح ذلك العالم، والمسؤول عنه، وعن دور الولايات المتحدة بنوع خاص، لاسيما أنها تبدو الآن غير راغبة في أن تحتفظ لنفسها بدور شرطي العالم أو دركه.
يعني ذلك الانسحاب بشكل مباشر أن التيار الانعزالي الأميركي، أي ذاك الذي يفضل التمترس وراء المحيطين، الأطلنطي من الشرق والهادي من الغرب، قد انتصر على نظيره الساعي إلى بسط الهيمنة الأميركية على العالم.
ولعله من طبيعة الحياة التقلبات الجيوسياسية، بل والديموغرافية، ما يجعل فكرة زوال امبراطوريات، وصعود غيرها أمرا طبيعيا، وهنا فإننا نجد صعودا طبيعيا للصين، كقطب قادم لا محالة، وقد بلغت اليوم من القوة والمنعة حدا جعلها تتجاوز نجاحاتها الاقتصادية، وتتطلع إلى تعزيز دورها العسكري حول العالم، وقصة سعيها لحيازة عشرة آلاف رأس نووي بنهاية هذا العقد دليل على سعيها الدؤوب نحو القطبية العالمية.
الصحوة الصينية هذه تهدد بصورة أو بأخرى جارين تاريخيين لدودين للصين، روسيا الاتحادية من جهة، واليابان من جهة ثانية، ولهذا يسعيان بشكل هادئ إلى تفاهمات مع بكين اليوم، وعلى أمل الحفاظ عل توازنات استراتيجية في الغد.
ولأن المصائب تجمع المصابين كما يقال، فقد رأينا ما يشبه التقارب الروسي – الصيني مؤخرا، والهدف هو مواجهة مخططات الولايات المتحدة، وليس سرا نذيعه القول إن هناك شكوكا حول النوايا الأميركية الحقيقية وراء الانسحاب من أفغانستان، وهل هو فخ مقصود ومنصوب للروس والصينيين أم لا؟
مهما يكن من أمر فإن تصريحات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في كلمته التي ألقاها في منتدى الشرق الاقتصادي في فلاديفستوك الروسية قبل بضعة أيام، حول دور الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي في الحفاظ على استقرار النظام العالمي تؤكد أننا في الطريق إلى النظام العالمي ما بعد الجديد.
ما هي ملامح ومعالم هذا النظام؟
إلى قراءة قادمة بإذن الله.