العدد 4456
السبت 26 ديسمبر 2020
banner
حال الأمة لغوياً
السبت 26 ديسمبر 2020

سرني للغاية أن خصصت صحيفة "البلاد" صفحة كاملة بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية في الثامن عشر من الشهر الجاري، وتبدو احتفالات هذا العام بهذه الذكرى في الإعلام العربي أفضل من السنين الفائتة، لكن يظل السؤال: هل ينبغي أن يقتصر احتفاؤنا بهذه المناسبة على التمجيد بلغتنا والتغني بفضائلها دون اغتنام الفرصة لمراجعة ما بلغته من أوضاع مزرية تعكس بالضبط وهدتنا الحضارية التي ما برحنا نتخبط في قعرها.

والتردي المقصود هنا ليس فقط في الإلمام بالحد الأدنى من نحوها وتفشي الأخطاء في الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حتى طاول هذا التفشي شريحة كبيرة من المثقفين والأدباء، بل والأهم من ذلك عدم إدخال أي تطور يُذكر في منظومتها اللغوية؛ وما شيوع الأخطاء اللغوية شيوعاً هائلاً غير مسبوق تاريخياً على امتداد عالمنا العربي إلا لهذا السبب تحديداً.

لا أخفي عليكم أن عنوان المقال إنما اقتبسته من عنوان لتقرير سنوي مطوّل دأب مركز دراسات الوحدة ببيروت على إصداره في كتاب أنيق يرصد فيه أوضاع العالم العربي سياسياً من جوانب متعددة؛ لكن كم هو جميل لو أضاف الحال اللغوية لتلك الجوانب بحيث يعهد الأمر للجنة لغوية متخصصة مكونة من خيرة علماء الضاد، لاسيما أن كوكبة منهم هم من لبنان حيث مقر المركز المذكور، مع أنه يصدر بين فينة وأخرى دراسات متميزة في هذا الشأن. وإذ انعقد مؤتمر بهذه المناسبة من 18 إلى 20 الجاري تحت عنوان "المؤتمر الافتراضي الدولي حول واقع اللغة العربية في القارة الأفريقية" وتناول حال اللغة العربية في شمال أفريقيا وبعض الدول الأفريقية، فإنه يكتسب أهمية لكل العرب لتطرقه لقضايا مهمة تخص لغتهم بالدرجة الأولى؛ كما بدا لي من استماعي لشطر كبير من الأوراق المقدمة ومداخلات المشاركين القيّمة؛ ولفتت نظري بوجه خاص المداخلة القنبلة التي فجرها العالم والمفكر اللغوي البارز الدكتور إميل يعقوب.

يرى يعقوب أن الداء الذي يحول دون تطور لغتنا لتواكب العصر يكمن في الإعراب الذي لزوم له، وبزواله تزول أهم عقبة كأداء من طريق ارتقائها، فالإعراب مضلل وغير مفيد، ومادام ينطوي على معنيين؛ الأول تبيان وظيفة الكلمة في الجملة عما إذا هي فاعل أو مفعول به أو مبتدأ أو خبر، والثاني تغيير حركة الكلمة آخر الجملة على نحو: جاء المعلمُ، رأيت المعلمَ، مررت بالمعلمِ، فإنه لا داعي لتعليم العربية بالمعنيين، فليس صحيحاً بالمعنى القول مثلاً: مرض الطفلُ، ومات الرجلُ، وانكسر الزجاجُ، فلا الطفل اختار المرض، ولا الموت بيد الرجل، ولا الزجاج تكسر من تلقاء نفسه، وهلم جرا يسوق أمثلة جريئة متعددة على هذا المنوال. وحتى بالمعنى الثاني المتمثل في زعم النحاة أن العلامات الإعرابية دوال على معان يفنده يعقوب بشدة ويرى أنه لا لزوم له، فالمعنى مفهوم إن قلت: أيها الزملاء الكرامُ، أو الكرامَ، أو الكرامِ. ثم يتساءل بحرقة: لماذا نقضي سنين طويلة على مقاعد الدراسة لنتعلم الإعراب ولا فائدة منه إلا ما ندر؛ مطالباً بالاكتفاء بالتسكين ومنبهاً زملاءه أساتذة اللغة في المؤتمر بأنهم جميعهم يسكنون أواخر الكلمات دون إعراب، وساخراً أيضاً من تقديس ما ذهب إليه العالم اللغوي الأسبق الخليل بن أحمد الفراهيدي بهذا الشأن. والحال ليست هي المرة الأولى التي يفجر فيها هذا العالم والمجدد اللغوي اللبناني مثل هذه القضايا الإشكالية بين نظرائه، فمن متابعاتي سبق أن فجّر ما ماثلها أو شابهها في فعاليات متعددة، وله ثلاث رسائل وجهها إلى مجمع اللغة العربية طبعها بعناوين مثيرة: يا مجمع اللغة العربية أنقذنا من هذا النحو (لم يتسن لي بعد اقتناءه)، يا مجمع اللغة العربية أجلس الهمزة وأوقف الألف (214 صفحة) يا مجمع اللغة العربية أرحنا من حركات الأعراب (في 277 صفحة)، وهذه الكتب الثلاثة مترابطة في مشروعه الإصلاحي للغة، وما ذهب إليه في المؤتمر واستعرضناه باقتضاب - على نحو ما تقدم - نجده مفصلاً في الكتاب الأخير. ولا يبدو من متابعاتي اللغوية واستفساراتي من بعض المعنيين بالمجمع اللغوي قد تجاوب هذا الأخير مع مطالباته أو فندها أو وضعها - على الأقل - على مشرحة التحليل العلمي لما لها ولما عليها.

الحق ثمة علماء أجلاء إصلاحيون آخرون يشاركون بهذا القدر أو ذاك يعقوب في جوهر منهجه الإصلاحي، نذكر منهم على سبيل المثال العالم التراثي اللغوي والسياسي العراقي الأستاذ هادي العلوي والدكتورة اللبنانية هنادا طه، وللأسف مازال أمثال هؤلاء المجددين المصلحين كمن يحرث في البحر، أو يسبح في وجه التيار، لكن ما يثير الارتياح في النفس صمودهم المثير للإعجاب وعدم استسلامهم لليأس؛ إذ يخوضون معركتهم الإصلاحية بلا كلل دون أن تفت في أعضادهم عراقيل.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية