+A
A-

فريد رمضان.. اقتطف قلادة الموت وتركنا خلفه

لم يكن فريد رمضان رحمه الله روائيا فحسب، بل مفكرا فلسفيا وكاتبا لامعا يلمس القلوب ببيانه الرائع ويهز العقول بأسلوبه الحي، فقد كان يغري القارئ بأسلوبه اللامع المتدفق بأنه يقرأ شيئا يسيرا، كان يستلهم من الحياة أقوى وأنبل ما فيها ويعرف قيمة الحد والتوسط والاعتدال أفضل معرفة، وكان يملك الشجاعة، بل وكانت طبيعته البركانية أقوى من كل الحدود.

كان واقعيا في كتاباته والواقع ليس أسير اللحظة الحاضرة، بل هو يعد بألف مكان، والحلم محاولة لامتلاك الواقع، ومتابعة براعمه وهي تتفتح أنه حلم العين اليقظى ذلك الذي تعرفه الواقعية، وليس إغماض العين عن الحقيقية وبناء أوهام من دخان الغياب، إنه ليس رفضا لعالم تملأه الاحزان، بل هو نهم متجدد لا يقنع بقبول العالم كما هو، بل يقترح عالما تقترن فيه الرغبة بالتحقق، ولم يعد الروائي فنانا خالقا فقط، بل أصبح عالما يشرح نفوس البشر كما يشرح الطبيب الجثث، ومن هنا نجد في كل قصص وروايات فريد رمضان تحليلا لمعطيات الواقع بحثا عن العلاقات ثم إعادة صياغة هذه المعطيات على النحو الذي يكفل أقصى حد من التطابق ومدلولها، أو بين العرض والجوهر.

ولفريد قصص عجيبة مع الواعدين في كتابة القصة القصيرة، فقد أعطاهم من نصائحه وخبرته، في الوقت الذي كان الكثير منهم يتخبط في غياهب الجب بحثا عن حبل نجاة جديد يلقيه بعض السيارة وأنا أحدهم، فقد كان رحمه الله أشبه بالمخبز الذي ينضج المواهب على نار هادئة تتحكم في جذوتها يد خبير يعشق عمله ويؤمن برسالته، أو على أقل تقدير يهدى بنوره من مازالوا ينتظرون على قارعة الطريق.

ميزه فريد رمضان وكما عرفته عن قرب النبش عن المواهب وتقديمها لتاريخ الأدب، والشد على يد الشباب وإنقاذهم من الغرق في أتون الضياع الفكري وخدع الدخلاء على الفن والأدب.

كان يضع لهم القواعد المحددة الحاسمة ويجنبهم في أحايين كثيرة طاحونة البحث عن الدائرة، وأنا أحد الكتاب الذين استفدت كثيرا من مدرسته بداية التسعينات وجنبني التقلبات العشوائية التي كانت سمة في حياة الشباب الواعد، وعندما عرضت عليه قصتي " السقوط" بعد نشرها في الصحافة واختيارها لتكون موضع نقاش في ندوة بأسرة الأدباء والكتاب منتصف التسعينات، قال لي لقد ورثت ملكات الأبداع من أبيك "محمد"، وشكل التجربة التي أمامي تحدثني عن ملامح خاصة في طريقة كتابة القصة القصيرة تترك في الروح رنينا لا ينتهي بانتهاء القراءة، ولكن احذر أن تتوقف كسكان الكهوف في الصحافة، فتلك مساومة خطيرة ومجازفة، وكان على وجهه تعبيرا كافيا لفهم المغزى.


ليس هناك ما يمنعنا أن نسأل. عبارة تمشي بجانبي كلما التقي أحد الرواد. قلت له ذات يوم في جلسة جمعتني معه.. كيف تنظر الى القصة القصيرة عندنا.. أجاب مشجعا.. القصة القصيرة في البحرين خالدة خلود الإنسان، ولدت مع حضارته. شخصيا أريد أن أجعل من القصة والرواية معولا أرفع العالم بواسطته.


"ستذهب لتبقى. كم كانت حدائق الموت تراوغ قلبك، تهدهد جراحك البيضاء، وأنت ذاهب للمرة الأولى، تاركا خلفك آثار قبلاتي، وجحيم أشواقي لتؤلمني. أيها الرجل يا عليل الوقت، لا تترك خلفك امرأة في ركن الحرائق تقطف قلائد الموت، وتتبع خطاك، تزين أجراس قميصك برائحة الصلاة. ستذهب أيها الرجل لتبقى في الهدأة. فلا تبقى في التراب، الحفرة الرائعة ليست للجسد، لاحتمالات العودة هي".


هكذا كتب في نص "نوران" وكم كنت أتمنى يا صديقي لو أن المرض كان قد أبقى لديك القدرة لتوديعنا.