العدد 4349
الخميس 10 سبتمبر 2020
banner
رشق النفس بالحجارة بقصد الإيقاظ
الخميس 10 سبتمبر 2020

عندما تقرأ للفيلسوف الفرنسي “جان جرنيه” تكون أشبه بالذي يركض خلف الحقيقة الصاعدة نحو السماء أو الهابطة من المكان الأرفع، تكون أمام قوة سباقة ومبدعة وكاشفة أمامك الكلمات للمثول على مسرح الأحداث ورشق النفس بالحجارة بقصد الإيقاظ، وقدر لي أن أحصل على النسخة العربية المترجمة من كتابه القديم “الحياة اليومية” من إصدارات عام 1968 حينما كان أستاذا في السوربون.

ينطلق جان جرنيه وراء خياله للتفكير في أشد التجارب تواضعا في حياة الإنسان وفي الخبرات العادية جدا للكائنات، فالفلسفة التي يمارسها ليست إلا عودة إلى عذرية الطفولة حيث نرى العالم كما لو كنا نلحظه أول مرة ونصاب بالدهشة للأشياء التي تأخذ مجراها العادي. الحركات والطقوس، ولعبة الحياة المألوفة، فتلك الحركات إنما تصنع أسلوب كل إنسان، بينما تشكل الطقوس أسلوب كل مجتمع.

ويتساءل جرنيه... وما الأسلوب؟ إنه أولا طريقة في التصرف والكينونة، وما السفر، والقراءة، والنوم، والتدخين؟ ما المعنى الدفين لتلك الأفعال؟ ما معنى ميلنا إلى التبغ مثلا.. إن التبغ الذي يعطي نوعا من النشوة يبدو وكأنه يخفف الجسد من أثقاله، والعقل كذلك. وهكذا فإن رجال الفعل يقدرون قيمة التبغ، فنابليون الأول كان يستنشق التبغ لكسب معركة أوسلترلتز، ونابليون الثالث كان يدخن واستطاع أن يضم السافور إلى فرنسا.

ولا يرد جان جرنيه على السؤال الذي يطرحه، لكنه يواصل التحليل بنفس المنطق الهادئ مؤكدا بالتساؤل من جديد، أهي النزوة الكامنة وراء تلك العادات؟ ومجيبا بهذه المرة بنعم، حيث إن المرء لا يمتلك العالم بالتدخين، لكن التبغ رمز لهذا الامتلاك، ونحن نتصرف كما لو كان العالم قد تحول إلى قبضة من التبغ، وكما لو كنا باستهلاكنا له إنما نجعل العالم عالمنا، حيث لم يعد إلا دخاننا الذي ننفثه، حلمنا، وهو حلم لا يقضى بالعزلة، إنما يجعل المرء في حالة شعور بالرضى... أو على الأقل في حالة شعور بالرضى. مشاهد جان جرنيه في الحياة، معظمها لقطات قريبة من النفس مرسومة بمهارة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .