العدد 4257
الأربعاء 10 يونيو 2020
banner
ريشة في الهواء أحمد جمعة
أحمد جمعة
نحن عرب نشتري آلامنا بأنفسنا!
الأربعاء 10 يونيو 2020

أغلقتُ أذنيّ وعينيّ وتجاهلتُ كلّ ما يدور من معارك بين فئات وشرائح عربية، معارك من سلالة طواحين الهواء، هذا يطلق عبارة، فتشتعل الساحة بآلاف المغردين، بشتائم وسباب، ويتدخل آلاف آخرون يدعون الحكمة والحنكة، ثم آلاف آخرون يميزون أنفسهم عن الباقي، وخلال ساعات، تنتهي حروب الطواحين تلك، باستنزاف الجميع طاقاتهم، مع مزيد من أمراض القلق والتوتر واختلال السكر وضغط الدم. ولو فحصت تلك المواضيع لوجدتها لا تساوي شيئا يذكر، بل لا تستحق الوقت الذي سُطرت فيه، لكن تستمر دوامة ضخ تلك البراميل من الترهات وتستغرب أن تجد العرب بالذات من بين جميع شعوب العالم يخوضون المعارك فيما بينهم على بديهيات متفقين عليها مسبقًا، لكنهم اختلفوا عليها فقط لأنهم عرب! وهذه عادتهم منذ التاريخ.

خذ مثالاً صارخًا موضوع تحرير فلسطين، منذ 1948 وحتى اليوم حروبهم بينهم تفوق بملايين النقاط حربهم مع إسرائيل، خذ موضوع الفتاوي الدينية، رغم معرفتهم منذ الأزل بكل قيم وقواعد وأسس الدين، لكنهم انقسموا في اليوم مئات المرات على هذه المبادئ التي حفظوها جيلا بعد جيل، خذ أي موضوع مهما كبر أو صغر واطرح فيه رأيا ما واعرضه على التصويت، سترى كل الذين اتفقوا على هذا الموضوع قبل طرحه عادوا واختلفوا عليه بمجرد إثارته بمناسبة ما أو من خلال قناة ما، ألف كذبة من جيبك وفبركها وأطلقها في تويتر، أو قم بنشرها عبر الواتساب، شرط أن تحبكها جيدًا ويستحسن أن تضع فوقها بعض البهارات، مثل اسم جريدة ما، أو قناة تلفزيونية ما، حتى لو لم يكن هناك وجود لهذه الوسيلة وهي من اختراعك، سترى الذباب والحشرات والنمل وكل الأشكال الإلكترونية تتلقفها وتدور طواحين الهواء حولها، وقد يصل الأمر إلى معارك بين الشعوب العربية، وتفجر براميل من الجراح، بسبب عبارة مؤلفة بحبكة.

لذلك سَددْتُ في الفترة الأخيرة أذناي وأغمضتُ عيناي، وتجاهلت منذ فترة بعيدة هذه الوسائل وذبابها ونملها الإلكتروني، واكتفيت بالعزلة نتيجة كورونا... في وسائل كسبتُ من خلالها معارف جديدة، وخبرات، وحققت الكثير، كنت قبل ذلك أهدرها في هذه الوسائل، لا أدعي أنني انقطعت عن العالم، فهذا مستحيل، لأنك إن لم تذهب للعالم فالعالم يأتيك بنفسه، لكن وضعت سدًا منيعًا ضد كل ما تفرزه طواحين الهواء من غبار ورذاذ، أشد فتكاً على الصحة من كورونا، ولو قاس كل فرد منا حجم القلق والتوتر والضغوط التي تصنعها به هذه الوسائل وما تفرزه من ترهات، لاندهش من تجرعه هذه السموم كل دقيقة وبإرادته.

اشتكى أحدهم لي ذات يوم من صديق جرحه على الواتساب، وظلّ متألمًا الأسبوع بطوله، استغربتُ بعد كل هذا الألم أنه مازال يحتفظ بحسابه معه!.

 

تنويرة:

لا تكن شاهدًا إذا لم تكن حاضرًا.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .