+A
A-

​السينما الأوروبية.. امتداد لوسائل الذهن في الكشف عن الانسان والمجتمع

المتلقي والمنسجم والمتابع للسينما العالمية سيجد ان هناك اختلافا كبيرا بين الأفلام الامريكية التي تعرضها مختلف دور السينما، وبين الأفلام الأوروبية والاسيوية التي دائما ما يطلق عليها بسينما النخبة لما تحدثه من تأثيرات في النفس والعاطفة، من حيث اسلوبها وموضوعها وموسيقاها وعبقرية مخرجيها، ولعل الفرق الواضح هنا هي ان السينما الأمريكية وبالرغم من ما تملكه من إمكانيات هائلة، إلا أنها تبقى سينما التسلية والألوان والبهرجة والمغامرات، والبطل الذي تقدمه يتصدر لمدة طويلة اهتمام الجمهور ودور العرض كما حصل مع سلسلة أفلام " رامبو" وافلام ارنولد شوارزينجر وغيرها، ثم انفجرت الموجة الجديدة وكانت في البداية ردود فعل غامضة ومختلطة ،عبرت عن نفسها بلون من الواقعية المتطرفة دون أن تتخلص نهائيا من العقدة والبناء، خوفا من أن تكون سببا في دمار "مالي شامل" لأن السينما الأمريكية تهتم فقط بالمردود على حساب المضمون والهدف، بدليل أن 80% من الأفلام التي تعرض ينساها المشاهد بعد خروجه مباشرة من السينما، و20% فقط من تترك أثرا في عقلية المشاهد كفيلم " تايتنك".

حينما ظهرت أفلام (أنطونيوني وفلليني، وفيسكونتي ،وغودار) وغيرهم من عباقرة الإخراج السينمائي في أوروبا ،لعبت اللقطة دورا هاما في سياق الفيلم، وأصبح المنظر أكثر من ديكور، ولكنه فیض رمزي يبلغ أحيانا حد الشعر وتابع النقاد أعمالهم بحرارة واعجاب متناميين ومن النادر أن يمر أسبوع  دون أن تفرد الصحف والمجلات الأوروبية عددا من المقالات التحليلية لهذه الأفلام.

 مع قدوم تلك الموجة للسينما الأوروبية، تشوهت صورة البطل الخارق في السينما الأمريكية، وبدأت الموجات الجديدة تركز أقدامها في مضمار الفن السينمائي العالمي، حيث فكرة " سينما القصة"، صحيح السينما عبارة عن مؤسسة لإنتاج القصص الجماهيرية، وما من أحد ينظر اليها على أنها دراسة وبحث، وكذلك السينما نوع من الصناعة التي يجب ان تسير، والتي لها جانبها الجماهيري الذي ينبغي ادراكه جيدا، ولكن هناك دائما جانبا غير جماهيري لا يمكن إغفاله، جانبا يصغي إليه كما يصغي إلى مناقشة أو محاضرة في أي جامعة. وقد يكون ما يقدم سيئا، لكننا نبحث خلال عرض الفيلم، ويكفي أن تكون هنالك 5 دقائق جيدة وغنية بمضمونها.

السينما يفترض ان تقفز على كل شيء لتكون دراسة تحليلية لمشاكل عينية ومعاصرة بواسطة الصورة المعبرة، ومعنى ذلك أن دور السينما لا يجب أن تكون لمواضيع اللهو كما تنظر إليها عقلية هوليوود، يذهب اليها المرء لتخفف من مشكلاته، ولينسى متاعبه " مشاكل أسرية أو في العمل وغيرها". ابدا...السينما يجب ان تكون مراكز للبحث لطرح المشاكل ومناقشتها لأحضار الواقع وكشف خفاياه، انها مدرسة تقدم للجمهور وبما تملك من دقة، صورة عن حياته الداخلية وعن حقيقة الوضع الاجتماعي. السينما يجب ان تكون امتداد لوسائل الذهن في الكشف عن الانسان والمجتمع، انها وسيلة راقية للفهم والتعبير وغنية بالمعطيات كما يثبت فيلم " مذكر مؤنث" للمخرج الفرنسي جان لوك غودار، أو فيلم " كوميادا" للمخرج الإيطالي المذهل بونتيكورفو، وفيلم " سلفاتوري جوليانو" للمخرج الإيطالي فرانشسكو روزي، والذي يتحدث عن المافيا في أوروبا، وفيلم " اللحية الحمراء" الذي عبر عن الذكاء الخارق للمخرج الياباني الاعجوبة اكيرا كيروساوا ، وغيرها من الأفلام الملتزمة بالسير في خط التتابع العقلي لا تحيد عنه مطلقا.

في مجتمعاتنا الخليجية قد لا يكون هناك اقبالا لهذا النوع من الإخراج والأفلام، لكن ينبغي الا ننسى ان الجمهور الخليجي والعربي وإذا كان لا يقبل هذا النوع الصعب من التحليل في لحظات راحته، فلأنه فقط تربى على نوع من السينما، وان تربية أخرى قد تمحو هذا الشكل الزائف الأمريكي كما يسميه المخرج غودار.

يقول غودار أيضا." سأظل أبحث عن شيء أكمل للتعبير السينمائي، أن سؤالي الاساسي هو : السينما ماهي ؟ وما مدى قدراتها على العطاء ؟ تماما كما كان جان بول سارتر يتساءل حين كتب " الكلمات " لم يكتب كلمات ؟ وفي كل فيلم من افلامي يلوح جزء من هذا البحث الحاد. أما المخرج الياباني كيروساوا فعلق على الأفلام الأمريكية وتحديدا أفلام الأكشن بالقول..لا أعرف لماذا يذهب الناس لتضيعه الوقت في مشاهدة ضوضاء وعنف وقصص ذات تركيب درامي غريب.

ما اريد الوصول اليه عبر تلك الاسطر وكمتابع للسينما وصورتها المشعة على الكون، ان السينما الحقيقية هي التي لا تسقط في دوامة الاحداث المدوخة ولا تمارس ألوان التهريج والعذاب على المتلقي، ولا تجعله امام جدران عالية سوداء، تتشابك على سطوحها العفنة عناكب الثرثرة. السينما الحقيقية هي التي لا تخدر الوجود الإنساني وتجعله معزولا عن واقعه، بل تجعله يقظا يعرف ما يدور حوله ويعرف الحياة بكل ابعادها. انها السينما التي تقدم اللقطة وهي – أي اللقطة - تحتوي على العالم بأسره كأفلام من سبق ذكرهم من المخرجين. السينما الحقيقية هي التي تقدم اللقطة مزركشة بشيء من الثقافة.

 ينبغي ان ننظر للسينما كوسيلة ثقافية وليس دارا للتهريج والتسلية المجردة، واتصور ان مجتمعاتنا بشكل عام لم تدرك بعد أهمية السينما الادراك اللازم، ولازالت هناك شريحة كبيرة تفضل السينما الرديئة على سينما الأفلام الفكرية الجيدة.