عندما جاء المخرج العالمي يوسف شاهين بفيلمه النادر “عودة الابن الضال”، لم يكن يحمل في جعبته مفاجأة للناس، لكن ابنه الذي هاجر، ثم قرر فجأة أن يعود، ابنه الذي رفض المجتمع وسافر لكي يبحث عن عالم أفضل، وابنه الذي شذّ عن عادات البيئة التي نشأ فيها ثم عاد بفكر مناهض لهذه البيئة، كان يمثل نقلة صارخة في كسر تابوت التفكير النوعي لدى النخب المتفكرة في “خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار”، الشمس التي تشرق من الشرق آن لنا أن نتوقع شروقها من الغرب، وتلك التي تغرب من الليل، آن لها أن تغرب مع الشروق.
عالم متداخل للحد الذي يحفز مداخل التفكير، ويستنفر أصول المعارف لكي تتحرك باتجاه كل ما هو ليس معقولًا.
الابن الضال عاد بفكر ضال، والأب الذي كان ينتظره على أحر من الجمر، كانت خيبة الأمل في انتظاره، وضياع الرجاء على أبواب بيته البسيط.
يوسف شاهين لم يندم على هذا العمل السينمائي الفريد، لكنه أخرج فأر تجارب من سترته المرتقة، المخرج آثر أن ينفض هذا الركام من ثوب أكتاف الفكر العربي، وقرر فجأة أن يسطر تاريخًا من الكتابة بالفن السابع عن تغيير قادم من الغرب، عن تكنولوجيا متقدمة ربما، عن فكر رافض لإرث مجتمعي يعاني من التلقين والتقليد والتكرار الممل والمُخل، هذا ما يريد أن يصل به، رغم ذلك ظل الفيلم حبيس التسويق المتحفظ، وظلت أفكاره لا تؤمن بالتغيير إلا على مضض.
عودة الابن الضال بفكر ضال كانت أسوأ من إعداد وتجهيز المجتمع للتعامل مع هول المفاجأة، فالكل كان يتوقع رحلة كفاح مُشرفة أشبه بتلك التي خاضها السير مجدي يعقوب وهو يغادر إلى بريطانيا معذبًا ثم يعود إلى بلاده وهو محمل بالأوسمة والنياشين، وكان المشاهد متوقعًا أن يعود الابن الضال بنوبل في الكيمياء أو الفيزياء مثلما فعل العالم المصري الراحل أحمد زويل، هذا هو التوقع من مجتمع اعتاد الانتصار في المهجر والهزيمة في الوطن، الإبداع في الخارج و”الكسل” في الداخل، الانطلاق خارج الحدود، وارتكاب الفشل في داخله.
لم يتعود المشاهد على عودة العار من الخارج، تصدير العنف إلى الوطن، الفكر الضال إلى الأجيال القادمة، العادات الدخيلة على أنظمة مستقرة حامدة، لم يتعود المشاهد أن يعود “حيلة” أبيه مفلسًا، ناقمًا، معتديًا، ولم يألفوه ملطخًا بوحل الرذيلة، ومواجهًا لمجتمعه الآمن البسيط.
أما أن يعود الابن الضال هكذا خالي الوفاض إلا من خطأ لم يكن شائعًا، وأن يعود بخفي حُنين على شاكلة الأولين المنهوبة قوافلهم، والمسبية نسائهم، وإما أن يصبح القادم أخطر وأشرس وأقل مقاومة لفكر تخلل ثنايا ضعفه، واحتل نصيبًا أعظم من قوته المتراجعة، وسيطر على أسلوب حياة كان يعتقد أنه قابل للتطور أكثر من قابليته لعمليات “غسل المخ” فإن الأمر يحتاج قطعًا ل”مكافحة” وربما مواجهة.
يتبع...