أكثر الأغنياء والعظماء غير سعداء، فإن القدرة على فن إدارة المال والمنصب والمجد لا يعني بالضرورة القدرة على فن إدارة السعادة. قبل بناء القصر الخارجي لابد أن تقوم ببناء القصر الداخلي، وتسيّجه، وتحرسه بالكلاب البوليسية، والكيمرات، لكي لا يخترق أحد قلبك، ونفسيتك. نحن البشر حريصون على سلامة كل مقتنياتنا من السرقة أو التلف أو الاختراق إلا سلامة القلب، نلقيه على الأرصفة في العراء عرضة لكل الذئاب البشرية المنفردة، ثم نبكي: لماذا نحن تعساء؟ كل القلوب الجريحة كانت ذات يوم معروضة للسرقة أو البيع، إما كسكراب أو كقطع غيار، تباع في أسواق شعبية لقلوب أخرى تحتاج إلى صيانة. أغلى ما عندنا نعرضه كعبد لا كملك، في سوق سماسرة العاطفة الكاذبة. ليس هناك حب من أول نظرة، وإنما هناك حماقة قرار قلب بلا حراسة من أول نظرة. إذا كانت السعادة متقلبة، فينبغي أن لا نعبِّد الطريق بالجروح الباقية، خصوصًا أن السعادة كالأميرات بخيلات في إعطاء المواعيد.
يقول محمد شكري، صاحب رواية “الخبز الحافي”: “لا ينبغي لنا أن نثق كثيرًا في السعادة. إنها آتية هاربة، منفلتة كلما أردنا القبض عليها. قد تكون مثل عصفور جميل يحط على حافة شرفتنا. لا نكاد نقترب منه حتى يطير. هل تعتقدين أن العصفور سيحط على الكتف ويغني لك أو لي كما نتخيل؟ إن الكاتب العظيم تشارلز ديكنس، صاحب رواية “الفيرتويست” لم يعرف السعادة، لأنه أحب شابة في سرية تامة، وظل معها لسنين طويلة خائفًا من زوجته وتهشم السمعة، رغم أنه كان يعشقها. لا يمكن أن تخلق السعادة في غابة ملأى بالرصاص، والصيادين المتربصين. فوبيا السرية موت آخر للسعادة. كل عظيم يوجد في حياته بعض الوحوش التي تنهش سعادته. ديكنز كان يعاني فوبيا الفضيحة، باعتباره كاتبًا مشهورًا. تهشمت سعادة آرنست همنجواى، عبقري الحرف الأميركي، صاحب رائعة “العجوز والبحر” بسبب ذكرياته، وذلك في مشاركته المؤلمة في الحرب العالمية الأولى والثانية، وكذلك الحرب الأهلية الإسبانية. كانت ذاكرته مليئة بالألغام، والرصاص، وصور الأشلاء، فلم يقم بتنظيف الذاكرة المتورمة، فكانت نهايته مأساوية. في علم النفس، كي تخفف من سطوة الذكريات لابد أن تقوم بفك الروابط الشرطية بأي شيء قد يعيدك لأنياب كوابيس الماضي، أكان عطرًا أم رصاصة أم مكانًا أم أغنية. أما سبب نزيف سعادة الكاتب الأيرلندي، أوسكار وايلد، فبسبب تورطه في زواج فاشل، لا يلبي هويته وشغفه العاطفي، فظل كنسمة هواء تتقاذفها طواحين مزرعة. أما طاغور، حكيم الهند، فسعادته أصبحت على المحك بسبب تفرد الموت بكل من يحب، خصوصًا زوجته التي رآها مصباحه في كهف الحياة المظلم. ولا شيء يقتل سعادة الإنسان كالعشق، وأنا أعتبر كل عاشق هو مريض سيكولوجيا، ويحتاج إلى معالجة، وكل العشاق يعانون من اضطرابات عاطفية، اضطرابًا يكون فرصة ذهبية للاستغلال. يقول الإمام علي عليه السّلام: مَن عَشِقَ شَيئًا أعشى (أعمى) بَصَرَهُ، وأمرَضَ قَلبَهُ، فَهُوَ يَنظُرُ بِعَينٍ غَيرِ صَحيحَةٍ، ويَسمَعُ بِأُذُنٍ غَيرِ سَميعَةٍ”. قلوبنا مريضة لكثرة ما تعلقت على مشانق المواعيد الكاذبة، وطعنات الخيبات، وتكلس البطاريات المستهلكة في تبديل “روموتكونترول” التلاعب لمشاعرنا. ولو غضبنا فلا رادع للمتلاعب؛ لأن العاشق عبد ذليل في سجون العبودية في ممالك الحب. يقول الإمام علي “ثَلاثَةُ أشياءَ لا دَوامَ لَها: المالُ في يَدِ المُبَذِّرِ، وسَحابَةُ الصَّيفِ، وغَضَبُ العاشِقِ” وأنشد القاضي أبو الحسن بن أضحى شعرًا دليلاً على العشق المرضي:
أزف الفراق وفي الفؤاد كلومُ... ودنا الترحل والحمام يحومُ
قل للأحبة كيف أنعم بعدكم... وأنا المسافر والفؤاد مقيمُ
قالوا الوداع يهيج منك صبابة... ويثير ما هو في الهوى مكتوم
قلت اسمحوا لي أن أفوز بنظرة... ودعوا القيامة بعد ذاك تقومُ.