العدد 3135
الإثنين 15 مايو 2017
banner
نقض صلاح الدين
الإثنين 15 مايو 2017

لو أردنا الوقوف على التواريخ والمناسبات، فليس أفضل من مصادفة أن ينشر هذا المقال في الخامس عشر من مايو، وهو اليوم الذي أعلن فيه تخلي بريطانيا عن انتدابها في فلسطين، بمعنى تسليمها العصابات الصهيونية التي أعلنت قبل ذلك التاريخ بيوم واحد قيام دولة إسرائيل، ولأن دواعي الأسى والبكاء كثيرة، خصوصاً مع استمرار الإضراب الشجاع عن الطعام للأسرى الفلسطينيين وسط إهمال عربي وبرود؛ فقد استرعى الانتباه ما أتى به يوسف زيدان أخيراً عن صلاح الدين الأيوبي.

يقع صلاح الدين الأيوبي في منطقة غالباً ما تقع فيها الشخصيات التاريخية، والعسكرية منها على وجه الخصوص، وخصوصاً إن كان لها تماسّ بالفرق الإسلامية، حتى وإن كانت شهرتها قائمة في الأساس على التعاطي مع الآخرين/الأعداء. إذ غالباً ما يثار عنهم كلام في مسألة القسوة، والعنف، والدموية، والاجتثاثية، وغيرها من الوصوف والزعم. فنرى هذا الكلام هو ما يركز عليه المتضررون، وهو ما يخفيه المنتمون إلى الجانب الذي تنتمي إليه الشخصية نفسها.

يوسف زيدان في تعليقه على شخصية صلاح الدين، وصفه بأنه “أحقر شخصية تاريخية”، وأن ليس له من التاريخ ما صوّرته آلة الثورة المصرية في 1952 وما بعدها، وأنه جرى توظيف الأوهام لخلق شخصية تاريخية لا تستحق كل هذا الإطناب والتعظيم والتبجيل، راوياً في هذا الأمر بعضاً من القصص التاريخية التي تسند كلامه.

بطبيعة الحال فإن الباحث لا يمكنه أن يكتم الحقيقة متى ما توصّل إليها، وليس هذا مجال الحجج في مسألة صحة ما قاله زيدان من عدمه، فلهذا أناس متخصصون في علم التاريخ، إلا أن الكثير من الأمور لابد أن يجري سردها هنا غير تلك التي تتساءل دوماً: لماذا الآن، ولمصلحة من؟ لأن هذا السؤال حري به أن يجعلنا لا نبحث ولا نعيد النظر، فكل الأوقات ستبدو غير ملائمة.

ليس زيدان بدعاً من الباحثين، ولن يكون الأخير، في سياق أمة مولعة في أن لا تجد لها سبباً من الماضي لما يمكنها أن تفخر به، ويحاول بعضٌ من أفرادها استلفات الأنظار بالمخالفة بالصاعقات لما درج عليه القوم، في الوقت الذي يستميت الدارجون لردّ كيد القائل في نحره، فلا هذا يرنو إلى الحقيقة، ولا أولئك يريدون تصديق أية نقيصة في نماذجهم، وفي الضفتين يغيب عن البعض أن ليس لنا الآن أن نضع التاريخ وشخوصه على مسطرة اليوم، فمعالجاتهم كانت نابعة من بيئاتهم، ولو أعملنا هذا المنهاج النقدي فلن تبقى شخصية واحدة على مرّ التاريخ (أؤكد: شخصية واحدة)، إلا وكان عليها من النقد ما يرفع عنها الاحترام، بل يجرح هيبتها وقدسيتها، وسيكون ذلك أهم وأبرز تفخيخ لكل ما آمنت به هذه الأمة، والسؤال سيكون: هل مهم أن تكون هناك أمة مطمئنة إلى ما تواتر إليها؟ أم تكون قلقة تاريخياً لن ترتاح إلا إن هدمت كل الأعمدة التي وقف عليها التاريخ، وأعادت البناء على أسس جديدة تقوم على مجاورة القصص المتناقضة بعضها بعضاً، للتخفيف من المواقف البطولية، وتسطيح الشخصيات المعروفة، بل شيطنتها إن أمكن، حتى تغدو هذه الجموع في مجرى النهر الأممي الكبير.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية