العدد 5672
الخميس 25 أبريل 2024
banner
كمال الذيب
كمال الذيب
الغرق في وحل الادعاء!
الخميس 25 أبريل 2024

إذا جاء الحديث عن الفيزياء تجد لهم باعا فيه، وإذا كان عن فلسفة ديكارت يزعمون أنهم من رواد (الكوجيتو)، وإذا كان عن السياسة والتاريخ والجغرافيا ومجلس الأمن والصواريخ البالستية وجمهوريات البلطيق، يدلون دلوهم ويعلنون أنهم خبراء في هذه الملفات.. المهم أنهم أحاطوا بكل شيء علماً.
مؤخرا التقيت رجلاً أعرف أنه لا يقرأ من الصحف سوى أسعار العملة وفقرة أبراج الحظ، اندفع بحماس غير طبيعي يحلل تحولات المناخ وأساس الأزمة الاقتصادية العالمية، يتنقل من موضوع إلى آخر بجهل عميق مركب وغريب، لا مثيل له، حتى أنه لمّح إلى معرفته بالشكلانيين الروس، وزعم أنه صادف بعضهم عندما كان يتسكع في الحي اللاتيني في باريس. الحقيقة أنه ومن كثرة هؤلاء الأدعياء في مجتمعنا، أصبحنا نتمنى أن نجد من يقول: لا اعرف.. لا أعلم.. لا أدري.. الله أعلم. ففي كل مرة تلتقي بهذه النماذج المريضة تجتاحك الثرثرة وتصيبك بالغثيان. وعندما تحاول إقناعهم بالتلميح والإشارة بأنهم قد يكونون من المتبحرين في وجه من وجوه المعرفة أو الحياة أو الاختصاص المهني، إلا أنهم لا يعرفون شيئاً في السياسة والفلسفة وعلم الجمال على سبيل المثال، دون جدوى.. تقول لهم إن الإنسان، مهما تبحر في العلم، فإنه يبقى محدود المعرفة، بالقياس إلى حجم المعارف الإنسانية وتنوعها وتشعبها وتجددها.. فيضحكون أو مستخفين بعدم اعترافك بعلمهم.. وقد يكرهونك ويتحاشون مجالستك، فأنت في نظرهم جاهل لا تقرّ لهم بالباع الطويل، ولا تعترف لهم بالعلم والدراية والنباهة والثقافة التي لا تسعها المحيطات. تتصفح الصحيفة فيصفعك الادعاء، تتصفح المجلة فيؤلمك الادعاء، وتستمع إلى الراديو فيجتاحك طوفان الثرثرة والحكمة المزيفة والأبوية المتعالية، ووسط هذا الركام من الهذيان صار الفكر ضائعاً والإبداع تائهاً وامتلأت الساحة بالمتطفلين المتسللين والأدعياء، فتساوى بذلك الإبداع بالبطيخ والفكر بالبصل. إن انتشار مثل هذه النماذج الغريبة، في مقابل تراجع نماذج العارفين المتواضعين الأصحاء في مجتمعاتنا، علامة على أننا نعيش نوعاً من الاختلال النفسي، هو وراء الغرور والادعاء.
* كاتب وإعلامي بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .