+A
A-

الرسوم الجمركية “الترامبية”... لماذا الصلب تحديدا؟

 في الثامن من مارس من العام الجاري، قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب فرض تعريفات جمركية نسبتها 25 % على واردات بلاده من الصلب 10 % على الألمنيوم، في إطار سعيه لدعم صناعة الصلب المحلية التي ادعى أنها تواجه منافسة غير عادلة تضعف الاقتصاد الأميركي وتهدد الأمن القومي للبلاد.

وبعدها بأسبوعين، وتحديدًا في 23 من الشهر نفسه، دخل القرار حيز التنفيذ، وأشار البيت الأبيض إلى أن التعريفات المفروضة ضرورية من أجل ضمان وجود إنتاج محلي لمادة حيوية كالصلب. غير أن الهدف الحقيقي هو حماية الصناعة الأميركية من الصلب الأجنبي الرخيص والذي تدعي الإدارة الأميركية أنه مدعوم بشكل غير عادل.

وتستورد الولايات المتحدة ما يوازي 4 أضعاف صادراتها من الصلب، وتؤمّن احتياجاتها من هذا الخام من أكثر 100 دولة، غير أن 3 أرباع وارداتها تأتي من 8 بلدان فقط، من بينها كندا والبرازيل وكوريا الجنوبية والمكسيك وروسيا وتركيا، وفقًا لبيانات منظمة التجارة الدولية.

 

لماذا الصلب بالتحديد؟

شهدت صناعة الصلب في الولايات المتحدة تغيرات واسعة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. فمن ناحية ساهمت سلسلة التطورات التكنولوجية التي شهدتها الصناعة في تحسين الإنتاجية، مما سمح لمصنعي الصلب برفع طاقتهم الإنتاجية من خلال الاستعانة بعدد أقل من العمال.

ووفقًا للبيانات الصادرة عن مكتب إحصاءات العمل، يوظف قطاع الصلب الأميركي حاليًا ما يقرب من 140 ألف عامل بشكل مباشر، مقارنة مع 650 ألفًا قبل ما يزيد على نصف قرن.

ومن ناحية أخرى، أسهمت المنافسة الأجنبية القوية وارتفاع حجم الواردات في تعميق جراح الصناعة الأميركية وخسارة المزيد من الأميركيين لوظائفهم، على الرغم من أن الكثير من الأبحاث تشير إلى أن واردات البلاد ليست هي السبب الرئيس لما تعاني منه الصناعة المحلية.

لكن هناك الكثير من الصناعات الأميركية التي تعاني من ظروف مشابهة، فلماذا الصلب بالتحديد؟ باختصار الواردات الأميركية من الصلب لطالما كانت مسألة حساسة سياسيًا؛ لأن معظم الطاقة الإنتاجية المحلية من الصلب تتركز في ولايات متأرجحة انتخابيًا بين الجمهوريين والديمقراطيين مثل بنسلفانيا.

ويأمل ترامب أن تساعده تلك الإجراءات في إمالة الكفة ناحية الجمهوريين في الانتخابات المقبلة، غير أنه أثناء سعيه لحماية منتجي الصلب أضر بمستهلكيه من الشركات المحلية. فالتعريفة المفروضة على الصلب ربما أفادت مصنعي الخام الأميركيين، ولكنها في الوقت نفسه أضرت بالقدرة التنافسية لكل الصناعات الأميركية الأخرى التي تستخدم الصلب.

ببساطة، التعريفات الجمركية تأخذ أموال المستهلكين وتنقلها إلى جيوب المنتجين. لنفترض مثلًا أن ماليزيا فرضت تعريفة قدرها 25 % على وارداتها من اللحوم. هذا بالتأكيد خبر سار بالنسبة لمنتجي اللحوم المحليين، إذ إن اللحوم المستوردة أصبحت أغلى بنسبة 25 %، ولكنه في الوقت نفسه يمثل خبرًا سيئًا بالنسبة للمطاعم والمستهلكين بالتبعية الذين سيتحملون الزيادة التي ستشهدها الأسعار.

 

تبًا للحلفاء... “أميركا أولًا”

البعض هنا قد يتساءل، أميركا دولة مصدرة للصلب فلماذا لا تعتمد الشركات الأميركية على المنتج المحلي بدلًا من المستورد؟ والإجابة هي أن الصلب كمادة له أنواع كثيرة تنتج بعضها الولايات المتحدة في حين توجد هناك أنواع أخرى تحتاج إليها الشركات الأميركية لا ينتجها سوى المصانع الأوروبية واليابانية.

أي أن الصلب ليس عبارة عن نوع واحد، بل توجد منه أنواع مختلفة مخصوصة لتطبيقات محددة تحتاج إلى تقنيات إنتاجية عالية جدًا. وهناك بعض الأنواع التي يتخصص فيها الأوروبيون والآسيويون وأنواع أخرى يتخصص فيها المنتجون الأميركيون.

واعتبرت الإجراءات الحمائية الأميركية بمثابة الرصاصة الأولى في حرب تجارية تشنها الولايات المتحدة ليس على الصين وإنما على حلفائها التاريخيين. فعلى عكس ما يعتقده البعض، لم تتضرر الصين بشكل كبير من تعريفات الصلب الأميركية؛ لأنها على الرغم من كونها تسيطر على نصف إنتاج العالم من الصلب إلا أنها تأتي في المرتبة الحادية عشرة في ترتيب أكبر مصدري الصلب للولايات المتحدة.

أكبر دولة مصدرة للصلب إلى الولايات المتحدة وبالتبعية أكبر المتضررين هي كندا تليها البرازيل ثم كوريا الجنوبية والمكسيك، وجميعها دول لطالما اعتبرها الساسة الأميركيون حلفاء تاريخيين للولايات المتحدة.

ولكن، كما هو متوقع لم تقف الدول المتضررة من التعريفات مكتوفة الأيدي، فالكنديون على سبيل المثال بعد أن صفعهم ترامب على خدهم الأيمن لم يديروا له الأيسر كما توقع وإنما ردوا له الصفعة من خلال فرض تعريفات مماثلة على وارداتهم الأميركية. ووصف رئيس وزرائهم الإجراءات الأميركية بأنها “إهانة” لبلاده.

 

على خطى “بوش”

في أوائل العام 2002، فرضت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش رسومًا جمركية على واردات البلاد من الصلب في محاولة لحماية صناعة الصلب الأميركية من الإغراق الأجنبي.

الرسوم الجمركية التي دخلت حيز التنفيذ في مارس من ذلك العام – والتي كان من المفترض أن تستمر لـ 3 سنوات – وصلت قيمتها إلى 30 %، وتم فرضها على كل دول العالم باستثناء دول عدة من بينها كندا والأردن والمكسيك. لكن هذه التعريفات فشلت في تحقيق الأهداف المرجوة منها وألحقت بالاقتصاد الأميركي أضرارًا جسيمة. وربما تعطينا هذه الواقعة فكرة عما يمكن أن نتوقعه من نتائج التعريفات المفروضة أخيرا من جانب ترامب على الصلب والألمنيوم.

أثرت هذه التعريفات بشكل سلبي على أسعار المنتجات التي يدخل الصلب في تصنيعها وأضرت بصناعات كثيرة أهمها، المعادن المصنعة والآلات والمعدات الثقيلة ومعدات النقل وقطع الغيار وشركات المقاولات ومصنعو الإطارات، وغيرها من الصناعات الأخرى التي تستخدم الصلب كأحد مدخلات الإنتاج.

وأشارت ورقة بحثية نشرتها شركة الاستشارات الاقتصادية “ترايد براتنرشيب ورالدوايد” في الرابع من فبراير 2003 تحت عنوان “العواقب غير المقصودة للتعريفات المفروضة على واردات الصلب بالولايات المتحدة: تقدير كمي للآثار المترتبة في العام 2002” إلى أنه في العام نفسه الذي قررت فيه إدارة بوش فرض التعريفة الجمركية كان عدد العمال الذين فقدوا وظائفهم بسبب ارتفاع الأسعار أكبر من مجموع ما وظفته شركات الصلب الأميركية.

كانت الغالبية العظمى من الشركات الأميركية المستهلكة للصلب عبارة عن شركات صغيرة. فوفقًا لذات الدراسة، كان 98 % من الشركات الأميركية المستهلكة للصلب والبالغ عددها 193 ألف شركة توظف أقل من 500 عامل.

هذا يعني أن هذه الشركات لم يكن أمامها خيار آخر سوى تقبل تلك الأسعار. بعبارة أخرى، كانت هذه الشركات أصغر من أن تمتلك القدرة على التأثير في الأسعار، ولذلك كان عليها قبول حقيقة أن تكلفة المدخلات ارتفعت، ولا يوجد مفر من تمرير الجزء الأكبر من الزيادة إلى المستهلك.

تسببت التعريفات في ارتفاع أسعار الصلب، وهو ما أثر سلبًا على كل الصناعات الأميركية المستخدمة لهذا الخام، والتي اضطرت إلى تسريح 200 ألف عامل فيما يقرب من عام، وهو ما يتجاوز إجمالي الوظائف التي خلقها قطاع إنتاج الصلب في نفس الفترة والتي بلغت نحو 187.5 ألف وظيفة.

لكن الآثار السلبية لهذه التعريفات لم تتوقف عند هذا الحد. فبسبب أن أسعار الصلب في الولايات المتحدة أصبحت أعلى مقارنة مع الدول الأخرى، أصبح لدى المصنعين الأجانب للمنتجات المحتوية على الصلب ميزة الكلفة على المصنعين الأميركيين للمنتجات، وهو ما شجع المتعاملين مع الشركات الأميركية إلى التحول نحو نظيرتها الأجنبية الأقل تكلفة.

بعد نحو 21 شهرًا من إقرارها، وتحت وطأة ضغوط داخلية وخارجية تزعمها الاتحاد الأوروبي الذي كان يستعد للرد بإجراءات قاسية، اضطرت إدارة بوش لإلغاء التعريفات بعد أن اتضح للجميع أن الفوائد التي سيحصل عليها المنتجون المحليون من هذه التعريفة أقل بكثير من التكلفة التي سيتحملها المستهلكون.

باختصار، تتضاءل فوائد السياسات الحمائية الهادفة إلى إنقاذ عدد قليل جدًا من الوظائف في صناعة الصلب الأميركية أمام العواقب السلبية على الاقتصاد الناجمة عن ارتفاع الأسعار وخسارة العمال في صناعات أخرى لوظائفهم.