العدد 215
الأحد 17 مايو 2009
banner
على أذرع الضوء الموحشة..
الجمعة 26 أبريل 2024

الخامس من الشهر ، لا أدري تحديداً إلى أين تأخذني السيارة ، وحيدة ٌ أتنفس أفكاري وأناقش نفسي، فأعيد الكــّرة عشرات المرات. وسط المنامة وجدتني حيث العمارات شاهقة العلو والبنايات متعددة الأدوار.
في الواقع كلما اقتربت من إحدى ناطحات السحاب تلك  والتي توازي في لمعانها “الفراغ” ، دفعني الفضول للسؤال أين أنا؟ من أكون؟ ماذا حققت؟
كيف أسهم في بناء “طوبة” لبلدي؟ أسئلة مشروعة ما دامت بالإمكان، ومادامت إشارة المرور الحمراء في أولها. حقاً لا شىء نهائي ، فكل شىء خاضع للمساومة ، بما فيه كرامة المرء وتاريخه. نعم، تلك المساومة اللعينة التي أفقدتنا القدرة على التفوق والنماء، فالأوطان لا تبنى بالمساومات أو الصفقات ، إنما الأوطان يبنيها إنسانها ، متى ما تمتع بقدر من الرفاه والإحترام والراحة النفسية ، كان ذلك مدعاة للإبداع والنتاج المثمر. أما إذا تكالبت من حوله سياط الحقد والضغينه، وإجتمعت من دونه التحالفات الشخصانية الكريهة، أصبح كمن يحاول عبثاً غرس شجرة في أرض صخرية، لا طائل من ورائها سوى الأشواك! ولعل ذلك أحد أبرز العلامات الفارقة بيننا كشعوب عربية متخلفة وأخرى أجنبية متقدمة .
 وإلا لماذا لا نتقدم أو نتطور؟ لأن عالمنا العربي ملىء بعشرات بل مئات النفوس المريضة ممن يسوءها كفاح الآخر! ملىء بالحفر والأخاديد النتنة.. التي تنبعث منها رائحة الزيف والخداع. وحده المنافق من يجد له مكاناً وسط الأوساخ، لأن وحدها الذباب من تلتف حول الجرذان، فهي آخر من يتكلم عن النظافة!
 أبواق السيارات من خلفي تكاد تسحق أفكاري، إيذاناً بإنطلاقة الشارة الخضراء. لابأس ، فالخروج من دائرة الضوء الخانقة مخرج لما يعتلجني من فوضى وصراخ داخلي.. ماذا لو إتجهت للبحر؟
 حيث السكون والأفق الفسيح ، فأنا كسائر برج “ الحوت” أهيم ولعاً وشوقاً في الإرتماء بأحضان البحر، والتدلل على ضفافه. لكن أين هي “ ضفافه” .. لا بحر في البحرين.. لا سواحل، لا شطآن غنــّاء. قـُضم البحر ولم يبق منه سوى النزر القليل ، الذي بالكاد يسع قهقهات المتخمين! يبدو أن الشارع يشدني إلى سوق شعبية، حيث البسطاء والأحلام المتواضعة المتناثرة على قارعة الطريق.. آه، كم هي زكية رائحة الشواء تلك ، إن نفسي مفتوحة على آخرها للتلذذ بقطعة شواء. تباً ، فالجيب يلفظ أنفاسه الأخيره ، وليس ثمة متسع لإستنشاق رائحة الحياة!
أفتح شبابيك السيارة، أقرر فعل أي شىء يشعرني بوجودي ، وبأني كائن حي له قيمة ، فأستجيب لنداء سيدة عجوز في إيصالها لبيتها . إمراة بحرينية أصيلة، موجات صوتها المحرقي الفواح  كالبهار الحار يتغلغل في مساماتي.. أنصت لأنينها بوقار.. ويلفحني لهيب تجربتها المثخنه بالجراح،أشعر أن العمر قد تقدم بي عشرون عاماً ، وبأني صرت عجوزاً .
أودعها عند مدخل بيتها المتواضع وأمضي على أذرع الضوء الموحشة ،أحصي جراحاتي وأعود من حيث أتيت، وحيدة وسط العمارات، لاشىء تغير أو إستجد سوى أن المكان صار أكثر ضيقاً ..


 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .