العدد 2257
الجمعة 19 ديسمبر 2014
banner
الأرض لا تتكلم “عربيّ” محمد المحفوظ
محمد المحفوظ
ومضة قلم
الجمعة 19 ديسمبر 2014

 لم يعد خافياَ الوضع المحزن الذّي تعيشه لغة الضاد. والخطر المحدق بها متعدد الأوجه، بيد أنّ أفدحها ذلك الذي مصدره أهل العربية بالتحديد. فنكاد نكون نحن الأمّة الوحيدة في هذا العالم حسب علمي من نهينُ لغتنا. ففي الوقت الذي نجد فيه أصحاب اللغات الأخرى يعتزون بلغاتهم ويدأبون بكل ما يستطيعون لحمايتها والاعتزاز بها بوصفها هوية جامعة نقوم نحن بالتنكر لها. وتكاد مقولة عالم الاجتماع العربيّ ابن خلدون تنطبق علينا اليوم بحذافيرها وملخصها أنّ المغلوب مولع أبداً بالاقتداء بالغالب في سائر أحواله.
 الذي يجري اليوم بصراحة هو عملية تجريد للغة العربية من كل مقوماتها ومن جلدها وعظمها وتركها عارية في الريح بغير ملامح وبلا هوية. وإزاء المأزق الذي تمر به لغتنا فإنّ الذّهن ينصرف إلى ما عبّر عنه الشاعر العربيّ حافظ إبراهيم قبل عقود عدة “أرى لرجال الغرب عزا ومنعة/ وكم عزّ أقوامٌ بعز لغات”.
 والحقيقة أننا أبناء الأمة العربيّة نشعر بالألم جرّاء ما تتعرض له لغتنا من إهانة بالغة. بالطبع لست في معرض الدفاع عن اللغة العربيّة، فأعتقد أنّ لديها من المناعة التاريخية ما يجعلها عصية على الذويان أو الاندثار.
 أتصور أنّ ما يحدث للغة العربيّة اليوم من إهمال أشبه بهجمة شعوبية تستهدف اغتيالها وبالتالي اغتيال كل جميل في حياتنا الثقافية وإجهاض كل ما يبعث القوة والزهو والعنفوان بتاريخنا وحضارتنا.
 ربما يتساءل البعض من هم المسؤولون عن هبوط مستوى الأجيال العربية الجديدة وعن ضعفهم المخجل في اللغة؟
 أنّ الخطر الأول مصدره الفضائيات العربيّة المنتشرة بشكل خرافيّ في السنوات الأخيرة. والمؤسف أنّ أصحابها أو القائمين عليها لم يضعوا ضمن شروط توظيف المذيعين إجادة اللغة العربية فضلا عن الإلمام بالثقافة العربية والحضور الواضح كما كان التقليد متبعا إبان خمسينات وستينات القرن الماضي، أي العصر الذهبي لمحطات الإذاعية، إذ كانت المعايير صارمة ومن أهمها القدرات اللغوية إضافة إلى سرعة البديهة التي تعد عنصرا أساسيا في شخصية الإذاعي.
لقد اختزلت الشروط المطلوبة في المذيع/ المذيعة إلى الشكل الجذاب لاستقطاب المشاهدين حتى لو كانت الثقافة هابطة والأداء سطحي والأدهى ما تظهر عليه الغالبية الساحقة منهم من تخبط فاضح في اللغة العربية. من يشاهد الفضائيات اليوم لابدّ أنه لاحظ أنّ غالبية المذيعين والمذيعات استبدلوا اللغة العربية الفصحى إلى اللهجات العامية لكل قطر عربيّ دون خجل أو حياء.
 الأمر ليس متوقفا على مقدمي ومقدمات البرامج الفضائية وحدهم، لكنّه للأسف طال حتى قراء النشرات الإخبارية ومن يتولون التعليق السياسي.
ولا يحتاج المتابع إلى خبرة عميقة ليكتشف الأخطاء الفاضحة. والمثير للسخرية أنّ هؤلاء يلجأون إلى التسكين في أغلب الأحيان تجنبا منهم للوقوع في الخطأ دون وعي منهم أنّ التسكين لا ينقذ مذيعاً لكونه يجرّ إلى أخطاء أخرى.
 أمّا الخطر الآخر على لغتنا اليوم كما نتصوره فهو انتشار المدارس الأجنبية. ولعلّ من المصادفات الغريبة أن تنشط هذه المؤسسات في الوقت الذّي تحاول فيه أكثر من جهة تطويق الأمة سياسيا واقتصاديا وثقافيا لمنعها من اللحاق بركب الحضارة ومن ثمّ الاعتزاز بهويتها. وطبقا لمقولة مثقف عربيّ فإنّ أعداء الأمة ومن يتربصون بها يحاولون اختراق كل الجبهات المادية والثقافية واللغة في المقدمة؛ نظرا لما تشكله من خلاصة لوجدان الأمة ولما تمثله من إحدى الركائز المتبقية لكي تحتل موقعا إستراتيجياً.
 وأخيراً يتبقى القول إنّ سقوط اللغة العربية يعني هزيمة حضارية للأمة ومسحا لتراثها. والخشية الأكبر أن تصبح لغتنا في قادم الأيام لغة منقرضة لا وجود لها إلاّ عرضة للفرجة في متاحف اللغات القديمة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .