العدد 2414
الإثنين 25 مايو 2015
banner
أسئلة الدم الحرام غسان الشهابي
غسان الشهابي
ذرائع
الإثنين 25 مايو 2015

بين اليأس والرجاء، يقف الكاتب ليكرر ما سبق أن كتبه، ما اندلقت أحباره من أجله، عندما كانت الكتابة أحبار، قبل أن تستحيل الكتابة إلى شيء من الكآبة اعتورت عدداً كبيراً ممن كنا ننظر إليهم بإكبار حيث أوقف البعض منهم فجأة حركته وحراكه عندما شعر أنْ لا فائدة، فقلة قليلة من الناس هم الذين يقرأون، وأقل منهم هم من يعون ما يقرأونه، والندرة هم من يطبقون ما قرأوا.
مصيبتنا اليوم في الأساس مع القراءة. فهناك الكثير من التعليقات التي أعقبت تفجير “القديح” الإرهابي، وتساقط الأبرياء جراء هذا الشحن، يقفز السؤال الدائم الطرح: من أين يأتي الإرهاب؟ من الذي يربّيه؟ هل المطاردة كافية أم العمل على الجذور والبذور وتطهير الأرض من تبعاتها وزراعتها ومزارعيها؟ كل هذه الأسئلة تراود الكثير من الدارسين وعددا من الكتاب أيضاً؛ بغية الوصول إلى ما يمكن أن يفسّر حقيقة ما يجري على أرض المسلمين من أقاصي آسيا إلى مجاهل إفريقيا مروراً على الصحاري العربية الجرداء، سواء كان ذلك في المفازات الفاصلة بين العراق وسوريا، أم في الجزيرة العربية، أم تلك التي تمتد وتتمدد في الشمال الإفريقي ببعده العربي، والمسمى بالصحراء الكبرى، السؤال نفسه: لماذا كل هذا العشق للدم والقتل والتنكيل وإفناء الآخر؟ هذا مع علم المحرِّضين أن مقتل عشرة هنا أو عشرين هناك عن طريق الانتحاريين في دار عبادة، أو تفخيخ سيارة في تجمّع، سوف لن يغيّر من عقيدة أحد، ولا ينتهي الأمر بانتصار طال انتظاره لقرون، ولن يفعل أي شيء سوى انتظار المغدور الفرصة ليصبح غادراً متى ما كان قادراً، وبالتالي فلن يعيد الكرّة والانتقام من القاتل، بل سيكون انتقاماً جماعياً على من يقع تحت يديه.. إنها ناعورة الانتقام التي لا تتوقف، يحرّكها الدم ويسقيها، والدم يجرّ الدم.. والسؤال أيضاً يظل مطروحاً: لماذا؟
هل صحيح ما يقال من أن الفتاوى التي صدرت قبل مئات السنين هي سبب تنامي هذا التيار المتشدد الذي يتمضمض بالدم؟ ربما يكون صحيحاً، ولكن السؤال المضاد هو: لماذا لم تنبت غصون الإرهاب والتطرف إلا في السنوات الأخيرة؟ أين كانت هذه الفتاوى وهذه الكتب؟ لماذا يقدم شاب قشعمي (مثلاً) على تحزيم جسده بالمتفجرات من نوع آر دي إكس ليقدم نفسه قرباناً لأفكار منحرفة، ولم يكتف بذلك، إذ اصطحب معه أناسا لا علاقة لهم بما يؤمن بهم، ولم يسألهم عن رأيهم في الذهاب معه إلى بارئهم، وألزم نفسه بما لم يلزمه به أحد... فكيف ترخص الحياة عند هؤلاء الشباب، وما الخطاب الشاحن والمشحون الذي يتم تدويمه في نفوس هؤلاء الناس مراراً وتكراراً من دون رقابة ولا التفات، حتى يغدو الفرد منهم قنبلة شديدة الحساسية.. شديدة الانفجار يمكنها أن تدمر مساحة واسعة من محيطها.. والتدمير الأخطر هو أن تكون هذه القنبلة البشرية قادرة عن تفريخ قنابل أخرى ربما تفوقها فتكاً وإجراماً إن أفلحت في ترويج هذا الفكر الذي يرجو صفاء الكرة الأرضية من كل أصناف البشر فيما عداه.
هل صحيح ما يقال أن في مناهج الدراسة في بعض الدول ما يحرّض على القتل والتنكيل والإجرام وتصفية المختلف؟ وهل هذا الذي معروض في المناهج معروض على أساس أنه جزء من التاريخ والتطور الطبيعي للأمم، أم أنه معروض لتصديقه والعمل به اليوم كما تم طرحه في حينه قبل مئات السنين، وفي سياق بالطبع مختلف عن سياق اليوم؟ وهل الحل بمنع هذه الكتب وسحقها وحرقها وجميعنا يعلم أن بمثل هذه الأفعال يزداد تطرف المتطرفين، أم بإعادة تقديمها من جديد على أنها نتاج فترات مضت وولت وعلاقتنا اليوم بتلك الفترات منقطعة ولا سبيل لعودتها من جديد.
فعلى قدر ما أوجعت جريمة “القديح” أصحاب القلوب الحيّة، والنفوس السويّة؛ فإن وجعاً مشابهاً لا يزال قائماً تجاه أعضاء هذا التنظيم التدميري، خصوصاً حين نعلم أن منهم من لا يزال في الخامسة عشرة والسادسة عشرة من عمره، فمتى تلقى هذا اليافع كل هذه الشحنات الملغومة من الرغبة في التخلص من الحياة عبر قتل النفس وتوزيع الموت على من لا يريد؟!
لا أشك - حتى من قبل إجراء الدراسات والمسوحات والبحوث العلمية العميقة في شأن هذه التنظيمات – في أن ما يقال عن استلال فتاوى قديمة وتطبيقها اليوم، أمر لا يعدو مدخلاً أولياً لما هو أعمق. فلا أشك في أن أكثر المنتمين إلى هذه التنظيمات لديهم فراغ نفسي لم تملأه حتى طمأنينة الجانب الروحي المتمثل في الدين، فصار الدين قلقاً بالنسبة لهم كما يقدّمه لهم المشايخ اليوم. ولا شكّ لديّ أن هؤلاء الفتية نتاج ألعاب الفيديو التي باتت تقدم القتل على أية قيمة أخرى، فكلما قتلت أكثر تقدّم ترتيبك.. فيما يجري قتلك في اللعبة مرات ومرات ومرات.. وماذا فيها.. سنعاود اللعب من جديد..
هذا التشبع والتماهي بين الواقع واللعب لا شك سطّح قيمة الحياة عند هؤلاء اليافعين وجعلهم غير مقدّرين نعمة الحياة ولا جمالها، ولا ما يمكنهم أن يعملوا فيها، وصار الموت أجمل لهم وأقرب. ولا شك لديّ أبدا في أن خلوِّ الأجواء العامة، سواء التي تدور على المستوى القطري، أم المستوى الإقليمي، أم على مستوى الأمتين العربية والإسلامية، من أي من المشجعات للمضي قدماً من أجل الحياة، والاستمتاع بالإنجاز، والتعمير والإعمار، من شأنه أن يساوي بين الحياة والممات لدى هؤلاء الشباب عندما يتساءلون: لماذا نحيا في أمة مهزومة، مغلوبة، متقهقرة، ولا يبدو في المدى القصير أنها ستثوب إلى رشدها أو ستنهض من عثرتها.
على الرغم من كل عوامل اليأس التي تحيط الكتاب، سأظل مع الذين ينادون بألا نطالب بأن يوقع أشد العقاب على منفذي هذه الجرائم وحسب، بل وأن نغدو دولاً ومجتمعات جاذبة لهؤلاء الشباب، يفخرون بانتمائهم لها، لأن لهم فيها قيمة وكيانا وكرامة.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية