العدد 2334
الجمعة 06 مارس 2015
banner
طيــــور اللقــالــــق... ولقــالـــق البشــــر! د.عمران الكبيسي
د.عمران الكبيسي
الجمعة 06 مارس 2015

طائر اللقلق الأبيض من بين الطيور المهاجرة من أوروبا إلى العراق شتاء، له عينان كبيرتان حادتا النظر، ومنقار وعنق وسيقان طويلة، وجناحان واسعان تعينه على التحليق عاليا رغم ثقل وزنه قياسا بالطيور الأخرى، يقتات على الحشرات والفئران والأسماك والأحياء المائية، وهو طائر جميل مسالم يحب الهدوء ويتجنب الضوضاء، يحبذ بفطرته العيش في الأماكن المرتفعة كأبراج الكنائس حيث قبة الأجراس، وأعالي المساجد بقمم المآذن، وأعمدة الكهرباء وأية مبان أخرى قديمة مرتفعة يبني فوقها أعشاشه ويتخذها ملاذا ومأمنا له بعيدا عن مضايقات الناس، حيث يصعب الوصول إليه، ولا يصله من ضوضاء المدن إلا أقلها. يجلس في صومعته يجول النظر يستمتع بما حوله من المشاهد.
ويروى أن أحد هذه الطيور المحبة للعزلة والانفراد، اختار برج إحدى الكنائس وبني عشه فوقه، وهو مما تسبب بإزعاج مستديم لشماس الكنيسة الذي يعنى بتنظيفها، لما يتركه طائر اللقلق من قش وبقايا وفضلات تساقط في صحن الكنيسة كلما قرع الناقوس، فاشتكى أمره إلى أحد القساوسة ممن له تجربة وخبرة، فنصحه القس أن يطعمه قطعة من كبدة الجمل بعد أن يرشها بالملح، والمعروف عن لحم الجمل يسبب العطش لمن يأكله، وهو غير مرغوب لدى الطائفة اليهودية ويرفضون أكله، وأن يضع بجوار الكبدة صحن من الخمر المعتق المركز. فتعجب الشماس ولكن ليس أمامه إلا أن يفعل ما يؤمر.
وغاية ما يؤمله القس إذا أكل اللقلق كبد الجمل المالح شعر بالعطش الشديد، فيضطر إلى شرب الخمر بشراهة، وعندها سيسكر بقوة، وتنحل أعصابه ويصبح ثقيل الحركة وغير قادر على الطيران ويفقد توازنه، فإن لم يقع من نفسه يصعد إليه الشماس ويمسكه. نفذ الشماس نصائح القس بحذافيرها حتى إذا سكر اللقلق، صعد إليه وأمسكه من رقبته وبيده السكين، وسأله قبل أن يقدم على ذبحه: من أية ملة أنت...؟ يهودي...؟  لا، اليهود لا تأكل كبدة الجمل، نصراني...؟ لا، النصارى لا تتبرز على ناقوس الكنيسة؟ مسلم ...؟ لا، المسلم لا يشرب الخمر؟ اشتهرت القصة وشاعت بين الأجيال حتى ذهبت مذهب المثل (لقلق الكنيسة) لا مسلم ولا مسيحي ولا يهودي، أي لوصف من لا دين له ولا مبادئ ولا ثبات، لا يحترم الأديان ولا الشرائع السماوية، يعمل بوجهين، ويتكلم بلسانيين، واختزل البغداديون المثل، فأصبح لقلقي وباللهجة العراقية “لكلكي أو ملكلك”  لتختصر وتصبح “لوكي” ويطلق على كل شخص متلون يقول ما لا يفعل!
يعكس المثل فطرة المجتمع الملتزم يوم كانت الطيبة البراءة والبساطة والصدق والثبات شغل الناس الشاغل، يحشمون من ارتكاب الدنايا، ويربؤون بأنفسهم من كل عيب، قبل أن تلوث أمراض المدنية الحديثة نفوسهم، وتفسد عليهم ألسنتهم وسمعهم وأبصارهم، لكن المصيبة الخرساء والمأساة العمياء أنك حين تسمع وترى وتنظر شمالا ويمينا اليوم ببلادنا تهولك كثرة “اللكلكية” المسلمون المسالمون وتحيتهم السلام أصبحوا إرهابيين يحللون قتل النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق على الهوية، والقساوسة والرهبان الذين حرموا على أنفسهم الزواج، باتوا لوطيين يهتكون عرض الأطفال الأبرياء داخل الكنائس، واليهود الذين كتبت عليهم الذلة والمسكنة صاروا سادة العالم، يكذبون ويسرقون ويتآمرون. وإذا بحثنا عمن هو غير لكلكي لا نجده إلا بعد مشقة.
وعلى مستوى الرؤساء العرب حكم كل من حسني مبارك والقذافي وعلي عبدالله صالح وبشار الأسد وعلي زين العابدين بلادهم عقودا قابعين بقصورهم وأبراجهم العاجية ولهم فيها سيادة وحصانة وبلغ شأنهم حد القداسة في الوطنية والزعامة، ولم ينل شعوبهم منهم إلا أوساخهم، وما أن زلت بهم القدم وتدحرجت الكراسي والرؤوس، سقط القناع عن الوجوه الغادرة، تنكر لهم وغدر بهم أقرب المقربين إليهم، تعرى المستور، وذرت الرياح ما عملوا، فمن “اللكلكي”؟ شعوب كانت تؤله رؤساء من كارتون مجوف، أم رؤساء استغلوا جهل الشعوب وفقرها وسكنوا القلاع والحصون وحكموا بالنار والحديد، ولم يكن لهم دين ولا مذهب.
وبعد أن عبث المحتلون بالعراق ورث عنهم أدعياء الوطنية والتحرر ممن عاشوا في الغرب غربان سود مهاجرة بقناع المعارضة، باعوا دينهم بدنياهم، واشتروا الضلالة بالهدى، والوطنية بالعمالة، خناجر مسمومة تحركها أصابع دخيلة، عادوا لينتقموا من شعوبهم؟ استغفلوا الناس واستفردوا بالسلطة والمكاسب جشعا، وفرقوا الملل والطوائف، كفروا بالوطنية والدين، سرقوا أموال البلاد والعباد، سكنوا القصور بعد الأكواخ، وشردوا شعبهم في كل واد اتقاء الموت هجروا قصور المرمر والحجر، وسكنوا بيوت الصفيح والشعر، دمروا الحرث والنسل والزرع والضرع، اغتصبوا وقتلوا وسجنوا، فلم يسلم المسلمون ولا المسيحيون ولا اليهود من شرورهم. حتى أحجمت اللقالق عن الهجرة إلى بغداد، فلم يعد لها مأمن تأوي إليه ولا متسع بين لقالق البشر”اللكلكية” التي وفدت على الدبابات الأمريكية.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .