العدد 1216
الأحد 12 فبراير 2012
banner
التحريف البين (2) محمود المبارك
محمود المبارك
كلام مفهوم
الأحد 12 فبراير 2012

فيما دار الكلام في المقال الفائت عن الرد على اشكالات المتحمسين للديموقراطية، فإن المقال قد يقال أنه يعيبه  الإغراق في الجانب النظري وكأنه يتكلم عن احوال مستحيلة التحقق، و مواقف لا يمكن لها الحصول.
لذلك أفردت هذا المقال لمناقشة بعض المواقف العملية لتؤيد ما افترضنا نظرياً إمكانية حصوله بل ربما حتمية حصوله، مع مراعاة عدم ذكر أسماء الأشخاص لا تحرجاً من شئ، فما سأنقله يمثل مواقف معلنة من أصحابها و أحاديث نشرت في بعض وسائل الإعلام، و لكن لنبتعد بالطرح عن أي شخصنة قد تحملها التسمية و لأن المثال يقرب و يبعد ولا شك أن الشخصنة مما يبعد مغزى المثال. قلت في المقال السابق أن الرهان على وجود الشارع الإسلامي كضمانة للحفاظ على الشريعة و إسلامية التشريع هو رهان قاصر النظر ، و أقول اليوم أنه يفتقد إلى قواعد المنطق والإستقراء و عاجز عن الربط بين نوعية الأطياف المختلفة الموجودة حالياً في الشارع و ما يمكن أن تفرزه من مخرجات على مستوى التشريع.
 في الحالة البحرينية يوجد تحالف قائم منذ التسعينات على الأقل بين أحزاب الإسلاميين و التيار اللا ديني في صلح غريب عن الحالة التي كانت موجودة في ستينيات و سبعينيات القرن الفائت و غريبة عن الأدبيات السابقة لأطراف و رموز هذا التحالف أنفسهم. فمن يراجع أدبيات الإسلاميين حتى ما قبل التسعينات يجد الهجوم المتبادل و الحرب الباردة بين هذين الطرفين عموماً و التي جاءت عقب حرب ضروس  تمثل أوجها في مقتل الشهيد عبدالله المدني رحمه الله.
و هذا الصلح الذي نتكلم عنه كان تجري خلاله تقاربات و تباعدات بين التيار الإسلامي  و الليبراليين، تصل إلى حد التنديد بالعلمانية من جانب الإسلاميين و التذمر من طغيان الإسلاميين و غرورهم من جانب تيار اليسار. و تصل في أوقات إلى تنظيرات الإسلاميين للمقاربة تقارن بين ما تعتبره جائزاً و هو التنسيق بين الطرفين و بين ماهو محرم يتمثل في التمكين لهم عند قلوب الناس.
 هذه العلاقة التي كانت تكسر الكثير من المتعارف حين تجمع بين النقائض سعياً للوصول إلى حالة يكون فيها الإسلاميون لباساً لليساريين و اليساريون لباساً للإسلاميين تجمعهم المصالح المشتركة و ربما فيما بعد المودة و الرحمة. يستفيد اليساريون من الإسلاميين للوصول إلى الداخل و يحصلون على نسخة من مفتاح البيت تمكنهم من التواصل المباشر و غير المباشر مع الجماهير، بينما يهدي اليساريون جواز سفر للإسلاميين يوصلهم إلى الخارج حين يخلصونهم من وصمة الطائفية خصوصاً و أولئك ينتمون إلى عوائل و أصول من مختلف المذاهب.
 من راقب هذه العلاقة في أوج عهود الخصام يتصور استحالة أن يصل الإسلاميون و اليساريون  رغم خلافهم الفكري الشديد أن يصل الطرفان إلى شهر عسل تصل فيه رموز الليبراليين و الإسلاميين أن يكون توصيفهم أنهم يتخندقون في خندق واحد. و مع ذلك فإن الوحدة بين التيارين حتى عهد قريب لم تبلغ حد الإمتزاج التام آنذاك بحيث بقي أكثر الليبراليين الحلفاء آنذاك قابعين في دوائرهم الإنتخابية و لم يتجرأوا حتى في انتخابات 2010 على محاولة تقاسم الكعكة الإنتخابية مع الإسلاميين، لأن فعل ذلك ربما كان لينهي شهر العسل باكراً.
 و الحال أن الوضع اليوم وصل إلى ماهو أبعد من التنسيق في الأنشطة أو التمكين في قلوب العامة، حيث ذابت بعض الثوابت الفكرية للطرفين إلى درجة أننا رأينا في الأسبوع المنصرم قيادياً في جمعية إسلامية يجدد الدعوة لتبني نموذج علماني في التشريع و الحكم و ما يفهم من كلامه أنه يدعم تعويم الدستور بحيث لا يكون مرتبطاً بالشريعة بل يكون مدنياً ديموقراطياً. كل ذلك بدعوى أنه لا يمكنك إكراه أحد في عقيدته و بدعوى توفير الحرية الدينية، رغم أنه في بداية كلامه يشيد بالحرية الدينية المتوفرة للأقليات في دولة دينية كدولة الرسول.
 هل وصولنا للتأكيد على مثل هذا الكلام من مطالبة بنموذج مدني مراراً و تكراراً هو استجابة لمطالب التيار اليساري، و الذي ما فتئ الإسلاميون يدثرونهم بدثار “الوطنية” فيسمونهم الوطنيين و كأن الوطنية حكر على الإنسان غير الديني. ثم لماذا أسمي نفسي إسلامياً إذا كان مشروعي يسعى لإزالة إسم الإسلام من الدستور و محو دين الدولة لتكون دولة بلا دين بدلاً من ترسيخه مع مراعاة حقوق الأقليات من ذوي الديانات الأخرى و الحفاظ على مصالحهم؟ صدقاً لا أرى جدوى من تسمية إسلامية لجمعية تسعى لنزع هذه الصفة من دستور دولتها إن صح فهمي لما تكرر ذكره من قبل قياديي هذه الجمعية الإسلامية.
 ولو رجعنا لبعض تصريحات “الوطنيين” لربما وجدنا سر الداء و أساس المعضلة حين يقول قيادي في إحدى جمعيات التيار (الديموقراطي) : “على الإسلاميين أن ينزلوا عن صهوة جواد الغرور، الإصرار على تطبيق الشريعة يمنع قيام التحالف الوطني”. و السؤال: هل تنازل نخبة من يحملون هم الشارع الإسلامي عن ما سماه الرجل بالغرور فقام على إثر ذلك ما أسماه بالتحالف الوطني؟ و إذا كان هذا هو الحال من الآن، و من النخبة، فكيف بالرهان على المدى الطويل و على الشارع الذي أجزم اليوم أنه ينظر لبعض اليساريين كرموز يلقي إليهم بالمودة و يتخذهم بطانة في كل خندق. و للحديث صلة.
آخر الوحي:
يا سادتي:
 إن السماء رحيبةً جداً..
 ولكن الصيارفة الذين تقاسموا ميراثنا ..
 وتقاسموا أوطاننا ..
 وتقاسموا أجسادنا ..
 لم يتركوا شبراً لنا..
نزار قباني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية