+A
A-

في عرين خليفة بن سلمان

بقلم السيد البابلي
اسمع اغنية ابراهيم حبيب “تبين عيني” التي فيها يردد “يقولوا انت عزيز الراس، يقولوا اهلك من اعز الناس... يقولوا انت بحرين “... فتدمع عيناي واتذكر البحرين واهلها وناسها الطيبين....
وتعود بى الذاكرة إلى العام 1986 عندما وصلت البحرين للمرة الاولى قادما من لندن للعمل في مكتب رئيس الوزراء، حيث قلت لنفسي انني لن استمر في هذه الجزيرة الصغيرة اكثر من عام واحد.
والتقيت في ذلك الوقت بالعديد من قدامي المصريين في البحرين لأسأل كل واحد منهم، كم مضى عليك هنا... و متى ستعود الى مصر... و كانت الاجابات متقاربة... فمن قال عشرة أعوام... كانوا يعتبرونه وافدا جديدا فمن يأتي الى البحرين لا يغادرها ويصبح جزءا منها.
ومضى عام واعوام وعقود من الزمان لتصل مدة البقاء في البحرين الى ما يقارب الـ 25 عاما في رحلة مضت سريعة وكأنها سنوات قليلة ولكنها كانت رحلة من نوع خاص، فيها من الدفء والمشاعر والعلاقات الطيبة والانصهار في المجتمع البحريني ما يجعلها رحلة جمال وامتاع هي كل ما املك في الحياة الان.
ففي هذا البلد الطيب وبين أهله وفي منطقة الرفاع على وجه التحديد عرفت البحرين من الداخل وكنت ولا زلت جزءا من هذا النسيج البحريني أتفاعل معه فأفرح لأفراحه وأحزن لأحزانه، وطنا اصبح يعيش داخلي وجزءا من تكويني وكياني.
وقررت ان اكتب عنه. اكتب لنفسي، و لاهلي في البحرين ولرجل اعتز به كثيرا وأتشرف أنني عملت معه وبجواره، رجل لمست فيه الغيرة على بنى وطنه، وقدم لبلاده الكثير ومازال مستمرا في العطاء لأنه احب هذا البلد وكان مهندسا لنهضته وتقدمه.
أكتب لخليفة بن سلمان الإنسان والأب قبل ان يكون خليفة بن سلمان الأمير والقائد، واكتب لكل اخ وصديق قابلته وعرفته في البحرين... للصبي الصغير في سوق جد حفص الذي كان يقوم بتجهيز الروبيان وهو يدعو لي قائلا “الله يغنيك يا أستاذ”، والرجل العجوز في عالي الذي كنت أجلس بجواره وهو يصنع الأواني الفخارية... و أكتب لأسرة “فهد الوزان” في المحرق... هذه الاسرة التي فقدت زهرة شبابها وظلت زوجته الفاضلة ترعى ابناءه بنفس الطيبة والعفوية التي كان عليها فهد الوزان رحمه الله والذي كان مثالا للمسلم الذي اذا مد يده بالصدقة فاٍن يده الاخرى لا تعلم عنها شيئا... و اكتب لكل من كان لي اخا وصديقا وعونا في بلاد كنا نعتقد اننا سنكون فيها غرباء فمنحتنا الامن والامان وصرنا من اصحاب الدار.
وهذا ليس كتابا توثيقا ولا رؤية سياسية او تحليلية، هذا كتاب من القلب عن سنوات في أرض الخلود... قد يكون فيه ما يعجب البعض وما لا يتقبله البعض الآخر، ولكنها في النهاية رؤية ذاتيه لكاتب لم يعتد في حياته إلا أن يقول ما يؤمن به ويعتقده.

السيد البابلي
أغسطس 2014

قالت لي سكرتيرة مكتب صحيفة الأهرام في لندن ان هناك شخصًا من البحرين على الهاتف يريد أن يتحدث معك... وقلت لها... من البحرين... أنا لا أعرف أحدا هناك...
وجاءنى صوته عميقا هادئا، قويًا أنا طارق المؤيد وزير الإعلام البحريني... هل أنت السيد البابلي واجبته بالإيجاب ولم يتحدث كثيرا اذ قال... نريد أن تقوم بزيارتنا في البحرين قريبا وسيرتب معكم الأمرالاخ ابراهيم نور مدير مكتبي... مع السلامة...
ولم يمنحني المرحوم طارق المؤيد فرصة لكي أستفسر منه عن شيء... لماذا أنا... و لماذا يريد منى زيارة البحرين... و هل يعرفني...
وقبل أن تدورفي ذهني عشرات الأسئلة، كان ابراهيم نور يتحدث ويشرح...
وابراهيم نور في حديثه بدا شخصا مغايرا عن الاتصال الاول، فطارق المؤيد لم يكن ينتظر موافقتي، بل كان يصدر أمرا بالحضور، اما ابراهيم نور فقد ظل يضحك وهو يشرح لي ان الوزير كان في مصر، وعندما عاد الى البحرين كان معه اسمك وطلب ان يراك، وعليك ان ترسل بجواز السفر الى السفارة في لندن وسوف يرسلون إليك بالتأشيرة وتذكرة السفر.
واجريت اتصالا بالقاهرة بالمرحوم محسن محمد أحد اصدقاء البحرين ومحبيها وهو رئيس تحرير “الجمهورية” في ذلك الوقت (1986)، وسألته... هل تعرف وزيرا اسمه طارق المؤيد طلب مني زيارة البحرين... و هل تعرف لماذا يوجه لي الدعوة؟.
وأجابني محسن بأنه قد التقى ومجموعة من رؤساء التحرير بطارق المؤيد على مأدبة عشاء أقيمت لتكريم الوزير بالقاهرة، و انه كان يبحث عن شخصية اعلامية بمواصفات معينة، وقد ذكرت له اسمك وأيدني في ذلك الأستاذان عبدالله عبد الباري رئيس مجلس ادارة “الأهرام”، وابراهيم سعده رئيس تحرير “أخبار اليوم”.
واستطرد محسن محمد قائلا... و لكني لا أعرف على وجه التحديد ماذا يريد طارق المؤيد... و لن تخسر شيئا اذا ما قمت بزيارته...
والى البحرين أقلعت الطائرة من لندن في ساعة متأخرة من المساء لتصل المنامة في ساعة مبكرة من الصباح...
وفي المطار قابلني عبدالحكيم موظف في العلاقات العامة بوزارة الإعلام، شاب صغير مرح يعرف الكثير عن مصر، ويعشق الحياة والتعرف إلى الناس.
وكأن عبدالحكيم كان يعرفني من قبل فقد ظل يتحدث طوال الطريق من المطار إلى فندق “الدبلومات” عن رحلات الصيد، وعن هواية لعبة التنس التي يعشقها وعن الفنانين في مصر ونوادرهم عندما كانوا يزورون االبحرين...
وفي الفندق قلت لعبدالحكيم إنني سوف أخلد إلى النوم فالرحلة كانت طويلة ولم أنم طوال الليل...
وأجابني عبدالحكيم ضاحكا... “تنام ايه يا أستاذ “... عندك موعد مع الشيخ خليفة اليوم بعد عدة ساعات... عليك بتغير ملابسك وأن تأتي معي إلى دار الحكومة...
موعد ايه يا عبدالحكيم... أنا عاوز أنام...
ولم يمنحني عبدالحكيم فرصة لكي أكمل كلامي... ترك حقيبتي في صالة الاستقبال بالفندق، وانطلق الى دار الحكومة أو مبني رئاسة الوزراء...

إدمان على القهوة
وأتى عم راشد... رجل كبير السن، مبتسم، تشعر معه بألفة ومحبة دون أن تعرفه، وهو يقدم لي القهوة العربية وقد وقف أمامي ساكنا لا يتحرك، ليقول لي عبدالحكيم “هز الفنجان” وأعطه اياه فهذه علامة على أنك لا تريد المزيد...
بل أريد المزيد يا عبدالحكيم, إن لها مذاقا مختلفا، وإذا كانت نوعا من القهوة فأنا بحاجة اليها لكي أبقى مستيقظا.
وضحك عم راشد ولم يبخل بملء الفنجان عدة مرات وهو يحكي عن فوائد القهوه العربية على المعدة.
لقاء المطوع
وقالوا لي... قبل أن تقابل الشيخ خليفة رئيس الوزراء سوف تقابل مدير مكتبه محمد المطوع...
وفي مكتب محمد المطوع كان اللقاء طويلا والحديث متشعب والموضوعات كثيرة.
وكان اللقاء الأول مع محمد المطوع، وهو لقاء أعقبته سنوات وسنوات من العمل الذي جمع بيننا.
فقد كان المطوع خلال اللقاء هادئا للغاية، يتحدث بدقة وتفكير قبل أن تخرج منه الكلمات ملما بكل التفاصيل والمعلومات عن مصر وتحاورنا في الأدب والسياسة والفن... و بدا لي شخصا جذابا يمكن الوثوق به من الوهلة الأولى وأن تتحدث معه وإليه دون حرج أو تردد.
وقال لي المطوع... سوف تقابل الآن الشيخ خليفة بن سلمان آل خليفة وستكون المقابلة للتعارف لنحو عشر دقائق فلديه الكثير من المقابلات والاجتماعات هذا اليوم...
ولم أفهم... لماذا يريدني الشيخ خليفة... و لماذا أتوا بي لرؤيته... و لماذا العجلة في المقابلة، فلم يكن احد في ذلك الوقت قد ذكر شيئا عن الرغبة في التعاقد معي للعمل وتوظيفي في دولة البحرين ولم يكن شيء من ذلك في خاطري ايضا.

عرف عني كل شيء
ودخلت إلى مكتب الشيخ خليفة المطل على مشهد خلاب لمياه الخليج، واشار الشيخ إلى مساعديه بالخروج وأن يتركوني وحدي معه حيث أجلسني بجواره وبدأ الحديث وإن كانت عيناه تنفذان إلى أعماقي تحاولان قراءة ملامح شخصيتي وتقومان بفحصى وتقييمي...
وبينما كان الشيخ خليفة يتحدث، فقد كنت ايضا أحاول أن أقرأ ملامح الرجل وأن أعرف الى أي نوع من القادة والحكام ينتمي...
ولم يكن سهلا في المقابلة الأولى الدخول في أعماق الشيخ خليفة بن سلمان، فعندما كان يتحدث عن أنور السادات ومصر كان حديثه مليئا بالإعجاب للرئيس الذي حارب وانتصر، ولمصر التي تربطها بالبحرين علاقات أزلية خاصة.
وعندما كان الشيخ خليفة يتحدث عن البحرين، كانت عيناه تتوهجان وهو يفتخر بما تحقق فيها من إنجازات رغم امكانياتها المحدودة مقارنة بجيرانها...
وكان الشيخ خليفة يتحدث باستفاضة وثقة، ملما بما يحدث في العالم من تطورات بشكل يثير الدهشة حول كيفية متابعته لكل هذه الأخبار والتفاصيل...
وشعرت وهو يتحدث أنه لا قيمة لحديثي... فقد أحسست انه يعرف ايضا اين ولدت... و من هم أفراد عائلتي ... فقد فاجأنى بسؤالي عن تجربتي في العمل مع الرئيس الراحل أنور السادات... و عن تجربة اصدار صحيفة “الأهرام” الدولي من لندن...
وإن هذه هي طريقة الشيخ خليفة في مقابلة ضيوفه، فهو يعشق التفاصيل والمعلومات حول من يلتقي بهم ليعرفهم قبل أن يعرفوه ويضعهم في احجامهم بمجرد أن يجلسوا إليه ومعه...
وبدلا من أن يستغرق اللقاء عدة دقائق، فإنه زاد عن الأربعين دقيقة، كنت فيها مستمعا ومتحدثا لفترات قليلة... و كنت مأخوذا ومشدودا إلى الرجل وأحلامه في بناء بلاده والابتعاد بها عن المشاكل...
كان الشيخ خليفة يتحدث كرجل دولة يشعر بالرضا عن نفسه وإن كان غير قانعا بذلك فقد كان يبحث عن المزيد والمزيد...
وأنهى الشيخ المقابلة بود بالغ وهو يقول... اذهب غدًا وقابل الشيخ عيسى... إنه أمير هذه البلاد وأريدك أن تراه...
وسألني المطوع بعد خروجي من المقابلة... كيف كان انطباعك؟...
وقلت للمطوع، سأقول لك وباختصار ما حدث... لقد جعلني أشعر معه أنني صغير جدا وأصابني بالخرس والعجز عن الكلام، فلم يكن لما سأقوله معنى إلى جانب ما تحدث به وما صدر منه من أقوال تعكس الكثير من التجارب والخبرات، انه شخصية جديرة بالاعجاب والاحترام.
ولم يتركني المطوع أعود الى الفندق بعد انتهاء المقابلة، فقد طلب ان نكمل حوارنا على الغداء معا في أحد الفنادق القريبة.
وعلى الغداء مع محمد المطوع، فقد جاء عبدالحكيم مسرعا ليقول إن الوزير طارق سوف يراك عصر اليوم في مجمع وزارة الإعلام ولا أريدك أن تتأخر وإلا كنت أنا الضحية...
ولم افهم سر خوف عبدالحكيم ورعبه إلا عندما ذهبت لمقابلة طارق المؤيد في عرينه في وزارة الإعلام وحيث كان المشهد مغايرا تماما لما كان عليه الأمر في دار الحكومة أو مجلس الوزراء...
ففي دار الحكومة كان هناك نوع من الهدوء والود والترحيب والابتسامات...
اما في وزارة الإعلام فقد شاهدت رجالا يقفون ولا يملكون قرار الجلوس او الحديث... و رأيت في الأعين قلقا وفي الملامح خوفا...
وجاءني ابراهيم نور مسرعا، وهو الوحيد الذي علت وجهه ابتسامة الترحيب بضيف... وأشار الى شخص يقف في آخر الغرفة الطويلة ليقول... هذا هو الوزير طارق المؤيد وهو في انتظارك...
وذهبت وأنا لا افهم لماذا لم يأخذني عبدالحكيم إليه مباشرة... و لماذا لا أجلس معه وحدي...
وصافحته وصافحت من حوله وأنا اسمع صوته يقول... الأخ البابلي تعال هنا...
وأجلسني طارق بجواره وقد ظل يتحدث إلى كبار موظفيه وهو يتحدث عن بعض الأخطاء وفي حالة مزاجية سيئة... و انتهت مقابلته معهم ومعي أيضا دون أن يقول لي شيئا او نتحدث في شيء...
وغادرت المكان وأنا أتساءل... من يكون هذا الرجل ولماذا هو غاضب إلى هذا الحد... و لماذا يقابلني اذا كان لن يتحدث معي...
ولم أجد إجابات، ولم اكن في حاجة إلى إجابات، فلم يكن الأمر حتى هذه اللحظة واضحا بالنسبة لي، وإن كنت كما سأوضح في فصول لاحقة قد تعرفت فيما بعد على طارق المؤيد الذي أرى أنه الأب الحقيقي للإعلام البحريني وأنه الرجل الذي استطاع أن يدخل البحرين عصرا جديدا من الإعلام ببناء مجمع ضخم للوزارة في مدينة عيسى وكان في مقدوره أن يقدم الكثير لولا أن ظروفا سياسية وإدارية لم تساعده كثيرا على تحقيق أحلامه.