+A
A-

ملاك في العصور القديمة 2

بقلم:د.مهندسة انوار صفار:
بعد مرور اسبوعين على الحادث , قررت ان تعود كما كانت , نشطة , مبدعة , و قوية , خصوصا , بعد ان تمكنت بفضل ذكائها الحاد من ان تندمج في مجتمعها الجديد و تتفهم اساليب حياتهم و بعض الكلمات التي يسهل تحديدها بلغة الاشارات , رسمت لم خرائط على الارض لبناء مساكن جديدة و ترك حياة الكهف , طلبت من كل عائلة ان تشيد بيت لنفسها من جذوع و اغصان الاشجار , لم تكتفِ
ان يكون البيت من أربعة جدران فقط , بل اضافت مكان للطبخ و حمام و غرف نوم , اعجبت افكارها السكان البدائيين فبادروا الى تنفيذها , و هكذا , خلال شهر تقريبا تمكن السكان من بناء مساكنهم الخاصة وفقا لتوجيهاتها , و كنوع من رد الجميل , شيدوا لها منزلا فخما يفوق بمساحته وشكله جميع مساكنهم , بعد ان أتموا بنائه فرشوه بقطع صوفية ملونة صنعتها نساء القرية و جلود حيوانات مختلفة كما وزعوا سلال الزهور و الفواكه في جميع إنحائه ثم دعوها لتسكن فيه , فرحت كثيرا و شكرتهم بحرارة على هديتهم , حين استيقظت في اليوم التالي , فتحت عينها ببطء , جالت نظراتها في انحاء بيتها الجديد فغمرها فرح غريب و كأنها , و لأول مرة في حياتها , تنام في غرفة , كانت نائمة على فراش من جلود الحيوانات و كذلك كان غطائها , تركت فراشها و خرجت الى الباحة الامامية فاستقبلتها فتاة في مقتبل العمر , حيتها و قدمت لها وعاء مملوء بحليب الماعز الساخن , اخذت الوعاء منها حيث وضعته على الارض ثم خرجت مرة اخرى نحو النهر لتستحم بمياهه الرقراقة , شعرت بنشاط و رغبة في عمل شيء نافع لسكان القرية , عادت لمسكنها و شربت الحليب الدافئ بتمهل , فكرت في تأثيث منزلها الجديد بطريقة عصرية كعادتها حين تفكر بمشروع عمل جديد , مخططات الكراسي و المقاعد الكبيرة و الطاولات و غيرها على أرضية حجرتها الترابية , بعد ذلك بدأت باختيار المواد الاولية اللازمة , كان هناك كم هائل من المواد الاولية يتمثل في اغصان و جذوع الاشجار و الصخور المتعددة الالوان و التي يبرع السكان في نحتها و تشكيلها بصور فنية جميلة جدا , بالإضافة الى مهاراتهم الكبيرة في صنع الاشكال الطينية المختلفة , بعد ان اطمأنت الى توافر جميع مستلزمات مشروعها الجديد , استدعت عدد من السكان الماهرين و عرضت عليهم الفكرة , اصيبوا بالدهشة و هم يعاينون الصور التخطيطية على الارض الترابية , بعد محاولات عدة استوعبوا الفكرة و رحبوا بها بحيث خرجوا فورا الى الغابة القريبة ليجمعوا اغصان الاشجار و كتل الصخر ... ( انهم اذكياء بالفطرة لانهم يتعلمون بسرعة فائقة ) تمتمت مع نفسها , امتلأت ساحة القرية بالاخشاب و الصخور و لا بد من البدء بالعمل , باشرت بصنع مجسمات صغيرة من الطين وعيدان الاغصان للكراسي و المناضد و الأسّرة و بقية الاثاث وعلمتهم كيفية القياس لصنع نماذج بالحجم الكبير
قررت ان تشكل فريق عمل من الشابات و الشباب من اصحاب المهارات المميزين , خصوصا الذين بدؤوا يفهمون ما تريده منهم من اعمال , طلبتهم و شرحت لهم غايتها لأنهم قادرون على التجاوب معها سريعا , كان لطلبها هذا استجابة سريعة و شعور بالفرح و الفخر لهم بين اقرانهم , بعد فترة وجيزة امتلأت منازل القرية بأشكال جميلة من الاثاث , و كان لها حصة الأسد منها طبعا , حيث صنعوا لها مجموعة جميلة جدا منها و قاموا بتوزيعها في أرجاء مسكنها الواسع .
لكن ! هناك قضية يجب حلها , لقد عاشت حياتها تحت نور الكهرباء غير ان الليل هنا كان حالك الظلام , كما ان استخدام المشاعل الخشبية أمر غير مريح , لذا , لا بد من التفكير لإيجاد بديل عملي للمشاعل الخشبية المستخدمة ليلا , لماذا لا يصنعون مصابيح زيتية ؟.. بدأت ترسم في مخيلتها شكل المصباح الخزفي الذي يستوعب كمية الزيت المطلوبة ليبقى مشتعلا طوال الليل و نوع الفتيل اللازم , في الصباح استدعت فريق العمل و شرحت لهم طلبها فاستجابوا لها و بدؤوا بصنع القوارير الطينية و تركوها تحت اشعة الشمس حتى تجف , و بعد ذلك يضعونها في النار لتكتسب الصلابة , بعد ايام قليلة , كان منظر القرية في الليل يوحي للناظر انه يرى مدينة ملاهي كبيرة تشع بانوارها الخافتة الموزعة بشكل هندسي بديع التصميم بين الممرات و مداخل البيوت وصولا الى النهر .
كانت تفكر في تعليم سكان القرية الكتابة و القراءة , لكنها لا تعرف كيف تبدأ , او ماذا تستخدم من أدوات , تذكرت انها شاهدت رسومات و تخطيطات ملونة على جدران الكهف في اليوم الاول لوجودها بينهم , استدعت فريق عملها و سألتهم عن تلك الرسومات و الالوان المستعملة فيها , أخبروها ان ساحر القرية ( و الذي هو في نفس الوقت الكاهن و الطبيب ) قد علمهم كيفية صنع الالوان من الفحم , و بعض انواع الصخور , اضافة الى العصارات النباتية الملونة , طلبت منهم تحضير بعض جلود الحيوانات و الالوان , علمتهم كيفية صناعة اقلام الكتابة من الاغصان الرفيعة , بعد ان جهزت كافة مستلزمات العمل , بدأت بتعليم فريقها كيفية رسم الحروف , و طريقة لفظها , ثم , كيفية جمع الحروف , و الاختلاف الحاصل في رسمها عند كتابة الكلمة , دامت عملية التعليم اكثر من شهرين , حتى تمكن الدارسون من استيعاب الكثير من المعاني , و اصبحوا قادرين على فهمها و نقلها الى ذويهم , و هكذا , تمكن سكان القرية من التفاهم معها و لو بشكل متعثر , لكنها في النهاية حققت حلمها .
بمرور الوقت اصبحت القرية تشبه احدى القرى العادية, صحيح ان سكانها لم يحصلوا على الكهرباء و لا حتى ابسط الادوات الحديثة , لكنهم اصبحوا يعيشون حياة متمدنة, كانت تحدثهم عن الطبيعة و عن الله صاروا يعبدون الله لكنهم ما زالوا يعتقدون ان الله ارسلها لمساعدتهم , حتى هي , كانت تعتقد , ربما هي ارادة الله في ان تكون سببا لمساعدتهم , و ان تنسى حياتها الاخرى , لذا , كانت تعمل بكل طاقتها لخدمتهم , الذي كان يشجعها اكثر , سرعة تعلم اهالي القرية الصغار و الكبار ...اهالي القرية كان يقدمون لها كل شيء جميل , اجمل الفاكهة , اجمل الجلود ؟؟ اصبح بيتها مملوءا بالجلود الثمينة , كانت تضحك حين تراها لانها تساوي كنزا ثمينا لو انها اخذتها الى المدينة , حتى الاحجار الكريمة , كانت لديها مجموعة كبيرة من الاحجار القيمة جدا.. بمرور الوقت تهرأ حذائها و بدأ بالتلف , لم تعلم ما تفعل , سألوها كيف يصنع الحذاء ؟ قالت انها تحتاج الى صمغ , ثم شرحت لهم ما هو الصمغ , و لكنها استغربت ما سمعته منهم , اخبروها ان الصمغ متوفر بكثرة , و سرعان ما احضروا لها الكثير من شجرة الصمغ , سعدت كثيرا بالامر و علمتهم كيف يصنعون الاحذية من الجلود , و حضت بالكثير من الاحذية الجديدة الجميلة , ثم علمتهم كيفية خياطة الملابس طبعا كانت عبارة عن ملابس بسيطة جدا , لكنهم و كالعادة اخذوا يبدعون , الامر الذي ابهرها , كانت كل يوم تدون على الجلود ما حدث معها في ذلك اليوم .. كان تقدم الاهالي في التعلم يسعدها , حتى انها كانت تقارنهم بطلابها فتجدهم اكثر ذكاء .
بعد مرور حوالي ثمانية شهور , و في احدى الليالي , عبرت سماء القرية احدى طائرات الهليكوبتر العسكرية , اثار منظر الاضواء المنتشرة فضول الضباط الموجودين في الطائرة , اتصلوا بقيادتهم يستفسرون عن هذه القرية لم يسبق ان لاحظوها على الخارطة , في اليوم التالي وصلت مجموعة من الطائرات و هبطت في ساحة القرية , نزل منها جنود و ضباط , تجولوا في القرية و هم مندهشين لما يرونه , تحدثوا الى السكان متسائلين فاخبرهم سكان القرية عن المرأة التي غيرت حياتهم , و التي كانت مشغولة بعملها قرب النهر, اسرع بعض الشباب نحو النهر ليخبروها بوصول الجنود و يقتادونها نحو الكهف خوفا عليها من الجيش , حين فهمت الامر منهم , طمأنتهم و اخبرتهم انها بحاجة لمقابلة الجنود , عادت مع اصدقائها الى القرية , توجهت الى الضباط الجالسين في بيتها و قدمت لهم شرحا مفصلا عن نفسها و عملها و ما حدث لها حين وصولها الى هنا , اثار حديثها استغرابا شديدا و دهشة كبيرة بين الضباط , اخبروها عن عمليات البحث المكثفة التي نظمتها الجهات المسؤولة و كيف اعلنوا نبأ وفاتها بعد ان فشلوا في العثور عليها , اخيرا , طلبوا منها مرافقتهم لتعود الى بلادها , كان وداعها لسكان القرية مؤثرا جدا , احضروا لها المزيد من الهدايا و اصروا على ان تأخذها معها كذكرى منهم , و حين اعترض احد الضباط على الكمية الكبيرة من الهدايا هددوه باحتجازها ما اثار دهشته , رضخ لطلبهم , ودعتهم فردا فردا صغارا و كبارا , و وعدتهم بالعودة اليهم في اقرب فرصة , هذا ما حدث , حيث بوصول الطائرة , كتب لها الرجوع الى حياتها الطبيعية .
قصتها اصبحت رمزا للكفاح و الاصرار لأجل البقاء كانت تحتل عناوين الفضائيات والجرائد و قد حصلت على اكثر من جائزة , من جهة اخرى اهتم المستثمرون بهذا الحدث فهرعوا الى القرية ليشتروا تلك البيوت البدائية من السكان و يمنحونهم المساكن بالمقابل مساكن راقية جدا و يشرعون بإقامة فنادق و منتجعات فاخرة , في نفس الوقت , كانوا يعرضون المساكن القديمة كي يستأجرها السياح المتوافدون بكثرة , ازدهرت احوال السكان الاقتصادية كثيرا حيث ازدهرت سوقهم الصغيرة بسبب الاقبال الكبير على شراء المنتوجات المحلية الصنع من الجلود و الاواني الفخارية و الحجرية و المنحوتات الاخرى اضافة الى الاحجار الكريمة , و تغيرت الاحوال في هذه القرية المنسية بحيث حصل سكانها على جميع مستلزمات الحياة العصرية من كهرباء تنتجها التربينات و الخلايا الشمسية و مياه نقية و مدرسة و مشفى و اجهزة كهربائية مختلفة , حتى ملابسهم تغيرت و اصبحوا يرتدون الملابس العصرية , غير ان طبيعة حياتهم البسيطة لم تتغير , لم يسمحوا بتلويث أجواء قريتهم باستعمال السيارات و الآلات التي تعمل بالوقود بل فرضوا على القادمين استخدام الزوارق في وصولهم الى القرية و مغادرتها .
الشيء الوحيد الذي رفضوا بيعه او التلاعب به كان مسكنها الخاص الذي شيدوه لها بأنفسهم بل ان المستثمرين كانوا يعتنون به جدا لأنه كان مقصدا للزائرين الذي يريدون مشاهدة البيت الذي غير مسار حياة هذه القرية بعد حوالي سنة , و بينما كانت جالسة على مكتبها , أخرجت قلم و ورقة و دونت عليها ..
( هذا الاسبوع محجوز ) , ثم أكملت ( علي ان اذهب الى قريتي , الى بيتي العزيز في القرية , كي أريح فكري ) ...
كانت في كل سنة , و في نفس الوقت الذي وصلت به الى القرية , تذهب الى هناك , الى بيتها , لم تترك هذه العادة أبدا , و كان اهالي القرية ينتظرونها بفارغ الصبر .

النهاية