العدد 6057
الخميس 15 مايو 2025
تجربتي في قرى "روندلينغ"  (Rundling)الألمانية: التراث الحي بين التوثيق والاكتشاف
السبت 26 أبريل 2025

في عمق منطقة فندلاند (Wendland) شمال ألمانيا، وتحديدًا في محيط مدينة لوشتاو (Lüchow) بولاية ساكسونيا السفلى، تقع قرى فريدة من نوعها تُعرف باسم روندلينغ  (Rundling) وهي قرى دائرية تعود أصولها إلى القرن الثاني عشر، وتُعد نموذجًا نادرًا من التخطيط العمراني الذي يجمع بين الطابع السلافي والجرماني (Germanic-Slav contact zone) في آنٍ واحد.

لكوني تحولت منذ عام 2010 الى محاضر في السياحة والتراث – جامعة BTU كوتبوس سِنفْتنبرغ، ألمانيا أُتيحت لي في عام 2012 فرصة استثنائية لزيارة هذه القرى ثلاث مرات ضمن برنامج أكاديمي نظمته جامعة بي تي يو BTU Cottbus–Senftenberg، حيث شاركت ضمن فريق بحثي متخصص في التراث المعماري غير المادي. وبدأت رحلتي بالعيش في فندق صغير يقع في إحدى قرى "الروندلينغ" نفسها، ما منحني تجربة حياتية حقيقية من داخل المكان الذي ندرسه.

ومن أجمل الذكريات التي لا تُنسى، هي ركوب الدراجة يوميًا مع زملائي من الباحثين – الألمان والدوليين – للتنقل من مكان إقامتنا إلى القرى المستهدفة بالتحليل والتوثيق. كنا نبدأ يومنا بتحليل بصري

 (visual analysis) يشمل واجهات المنازل، والزخارف، والعناصر المعلّقة، وتفاصيل الاستخدامات الوظيفية لكل بيت. قمنا كذلك بتوثيق الأبعاد المعمارية للمنازل، وتحليل تصميمها الداخلي، من حيث البنية الأسرية، ومناطق تربية الحيوانات، ونمط العلاقات بين أفراد الأسرة. كما درسنا مدى القرب أو البعد عن الحقول التي يعتني بها السكان، وأنواع المحاصيل المزروعة، ومدى تأثر الزراعة بالمواسم، وصعوبات الشتاء القارس، وغياب الخدمات الطبية سابقًا.

وقد اكتشفنا أن بعض البيوت التي تحوّلت إلى المسيحية كانت تكتب آيات من الكتاب المقدس (Bible verses) فوق أبواب مداخلها، وهو ما يعكس مسار التحوّل الديني في آخر خمس قرون من الوثنية إلى المسيحية بطريقة معمارية فريدة.

إحدى الجوانب التي تعلمتها في هذا المشروع هو كيف يمكن للباحث أن يكون عضوًا فاعلاً في المجتمع الأكاديمي حتى خارج أسوار الجامعة، من خلال الاندماج في شبكات علمية وجمعيات ثقافية كـ"روندلينغسفيراين" (Rundlingsverein) التي تعمل منذ أكثر من 45 عامًا على توثيق هذه القرى وحمايتها.

لكن الأجمل من الجانب العلمي كان التفاعل الإنساني. تعرفت على سكان القرى، من السلافيين/الألمان، وتذوقت الأطعمة التقليدية في مطاعم محلية صغيرة، وتبادلت الأحاديث مع المزارعين وكبار السن الذين احتفظوا بذكريات وقصص شفوية من ماضيهم. ومن اللحظات التي ستظل عالقة في ذاكرتي، كانت اللقاءات مع العمدة السيد "هوبرت شفيدلاند " (Hubert Schwedland) الذي كان لطيفًا بما يكفي لإقامة عشاء تقليدي لنا، حيث استمتعت بأطباق اللحوم المحلية التي تم تحضيرها باستخدام مكونات تقليدية، وهو ما جعل التجربة أكثر تميزًا. ورغم أن ملف ترشيح هذه القرى إلى قائمة التراث العالمي لليونسكو لم يُقبل في ديسمبر 2023، إلا أن التجربة تظل شاهداً على أهمية التراث المعاش، وعلى قدرة القرى البسيطة على حمل رسائل حضارية عميقة.

ختامًا، فإن تجربتي في قرى الروندلينغ هي واحدة من التجارب التي شكّلت رؤيتي حول السياحة التراثية، وكيف يمكن للبحث العلمي أن يتقاطع مع الحياة اليومية ليُنتج معرفة إنسانية حقيقية. كما أنها تعزز إيماني بأن  بلادنا – بتاريخها وثقافتها – قادرة على قيادة مشاريع تراثية مشابهة، تربط بين المحلي والعالمي، وتفتح آفاقاً جديدة للتعاون الدولي في مجال السياحة الثقافية المستدامة.

هذا الموضوع من مدونات القراء
ترحب "البلاد" بمساهماتكم البناءة، بما في ذلك المقالات والتقارير وغيرها من المواد الصحفية للمشاركة تواصل معنا على: [email protected]
صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .