+A
A-

فاختر أي معلّم تود أن تكون

في آخر يوم لي في سنة الامتياز التدريبية، توقف أحد الاستشاريين بينما كان يتفقد مرضاه ليسألني عن اسمي وعن الجامعة التي ارتدتها وعدة أسئلة أخرى. تفاجأت بالموقف، حيث إنه لم يجمعنا قبل ذلك أي حوار أو موقف آخر. وبينما كانت التساؤلات تداهمني، أبدى ثناءه على عرض قمت بتقديمه أمام مجموعة من أطباء القسم حول حالة مرضية للنقاش وبالثقة التي كانت تعتريني، ليجيب عن فضولي. سألني عن التخصص الذي أرغب به، فأجبته بالجراحة، ليباغتني بسؤال عما إن كنت أعرف طريقة العقدة الجراحية. أتبع ذلك بطلب: هل بالإمكان الحصول على خيط؟ ثم انصرف ليكمل مروره على مرضاه وظننت أنه قد لا يستذكر، فأكملت ماكنت منهمكة فيه. تفاجأت بعودته وبيده ربطة، وبدأ بعمل عدة عقد منها. وكأنه مع كل عقدة يقول: أحب الاتقان في أبسط الأشياء. أكمل حديثه وأخبرني عن فيلم فكرته أن الطب مبني على مشاركة المعارف وتداولها من جيل لآخر، وهكذا. وختم: إذا مرت الأيام واعتلى حجابك شعرك الأبيض ولفت انتباهك تلميذ نبيه، تذكري هذا الموقف، وقومي بالفعل ذاته، تقدمي إليه، أشيدي به وحدثيه عن إعجابك. مازلت أتذكر حجم السعادة التي غمرتني لأيام وأيام، وكأن الموقف كان يتجدد كل يوم، ومازال.

كنت في أحد الاختبارات الشفهية، وقد كان السؤال حول خطوات إجراء طبي ما. قمت بالإجابة على السؤال كما قرأت وحضرت له، شكرني الاستشاري الذي لطالما سبقه اسمه واشتهر بمهارته في تخصص دقيق ومعقد والاستشارية التي عرفتها مذ كنت طالبة في الجامعة إلى أن وقفت بجانبها في غرفة العمليات كطبيبة مقيمة في تخصص الجراحة، أتعلم منها خصال الطبيب الإنسان قبل مهارة اليد، وقمت بالانصراف بعد انتهاء الوقت. كان ذلك بين الثامنة والتاسعة صباحا، لأتفاجأ بعدها بنحو ١٢ ساعة ليلا بالاستشارية، وهي تهاتفني بسعادة لتبارك لي وتعبر عن فخرها وتباهيها أمام الاستشاري الآخر بدقة إجابتي التي وصفتها بأنها كما وردت في الكتب تماما.

تعج ذاكرتي بالمواقف السلبية، ولكنني آثرت ألّا أجعل لها مكانا هنا وأن أذكر المواقف الإيجابية بتفاصيلها العالقة في ذاكرتي، فقد مرت أشهر عديدة ولكنني مازلت أتذكر كل لحظة، بالسعادة التي صاحبتها، وابتسامتي التي لم تتسع كفاية لتعبر عن حجم السرور الذي اجتاحني. يذكرني كل ذلك بمقولة قرأتها: أسهل على المعلم أن يأمر من أن يُعلّم. بإمكان كل منا أن يمنح العلم والمعرفة، ولكن ليس ذلك جوهر التعليم الذي تسبقه التربية حين يقترن المصطلحان. فالمعلم أينما كان، في فصول المدارس، في قاعات الجامعات، في أروقة المستشفيات، بإمكانه أن يقدم أكثر من هذا كله لتلميذه. فاختر أي معلّم تود أن تكون. عام دراسي مثمر بإذن الله.

روان عبدالرحمن الهرمي