العدد 6043
الخميس 01 مايو 2025
بين أزمة الابتكار وتحدي بناء المستقبل في زمن التحولات الكبرى
الخميس 01 مايو 2025

 في عصر تتغير فيه الخرائط المعرفية بوتيرة جنونية، وتتحوّل فيه الجامعات حول العالم إلى مختبرات للأفكار واختراع الغد، وتسوده الثورة التكنولوجية الكاسحة والذكاء الصناعي، لا تزال معظم مؤسسات التعليم العالي في العالم العربي محاصرة في قوالب الماضي، وتواجه تحديات جذرية تعيقها عن أداء أدوارها كقاطرة للتقدم وابتكار المستقبل، لأنها مثقلة بكثير من المعوقات التي تبعدها عن أداء رسالتها الحقيقية.
الجامعات هي مصادر للفكر والعلم ومراكز للأبحاث، مهمتها التعايش مع الحياة العملية والعلمية وأن تجعل الأجيال الجديدة على دراية بالواقع وتطوراته ودراسة همومه والتعرف على مشاكله الفعلية، وتطوير الطلبة علميًّا وفكريًّا وبكل ما تملك من قدرة على البحث والتشخيص والتحليل، وتكون على صلة بينها وبين دنيا العمل والتكنولوجيا، وحتى تتحول من مجرد مانحة للشهادات إلى حاضنة للإبداع والخريجين قادة التغيير، فهي بحاجة إلى بيئة أكاديمية ورؤساء وعمداء ذوي رؤية واضحة وأكفاء يواكبون الاتجاهات الحديثة في التعليم على المستوى الدولي واختيار الموارد البشرية المؤهلة، واتباع مناهج حديثة، والاهتمام بالبحث العلمي.
والوظيفة الأساسية لمؤسسات التعليم العالي هي تأهيل الشباب علميًّا وسلوكيًّا وفكريًّا، وأن تبتكر مع مرور الوقت مسارات للتقدم ونقل المعرفة إلى المجتمعات وأن تكون مشاعل للتقدم. غير أن الأنظمة التي تخضع لها تحد من قدراتها على مواكبة التقدم العلمي الذي يحصل في مثيلاتها من البلدان المتقدمة. ولعل قدرًا كبيرًا وملحوظًا يتصل بضعف مرحلة التعليم الأساسي، وافتقار المجتمعات العربية لمؤسسات إنتاج حقيقية من معامل ومصانع ومراكز للأبحاث الجادة. 

فقد اختزلت أدوار مؤسسات التعليم العالي في مجرد منح الشهادات التي تكون أغلبها خالية من المحتوى وتعلق داخل البيوت والمكاتب كجزء من الديكور الداخلي الذي يستر عيوبًا عديدة في البناء الداخلي، لا تنتج فكرا ولا تبني أمة، وفي ظل هذا الوضع لم يكن غريبًا أن يقوم كل من التعليم والعمل بنفي الآخر ومحاصرة أدواره.

التحديات التي تعيق التعليم العربي كثيرة منها:
١- المناهج البعيدة عن التقدم التكنولوجي. 
لا تزال العديد من الجامعات العربية تعتمد مناهج قديمة في زمن جديد، نظرية تركز على الحفظ والتلقين، بدلًا من تنمية مهارات التحليل والتفكير النقدي. فمثلًا في مجال الهندسة، يفتقد الطلبة إلى مختبرات متطورة أو التدريب العملي في الميدان، وينهون دراستهم دون أن يلمسوا مختبرًا متقدمًا، أو يشاركوا في مشروع عملي واحد يهيئهم لسوق العمل، ما يخلق فجوة بين المعرفة الأكاديمية ومتطلبات سوق العمل، ولا يزال الطالب يدرس نظريات القرن العشرين أو قبله، بينما العالم يتسابق في تطبيقات الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات.
٢- بيروقراطية بدون أفق وتمويل بدون رؤية وضعف التمويل وطريقة صرفه.
تعاني الجامعات من هياكل إدارية معقدة وترهل إداري وقرارات متضاربة، ولاسيما الحكومية منها، تعيق تبني مشاريع بحثية مبتكرة، حيث تُهدر أشهر على إجراءات الموافقة على بحوث طلاب الدكتوراه، بينما تُوجه ميزانيات محدودة إلى فعاليات شكلية بدلًا من دعم الابتكار، أو تبني الأفكار الخلّاقة وموتها في مهدها، كما تفتقد إلى الأموال الأهلية.

٣- الانفصال عن قطاع الإنتاج وسوق العمل:
قلة المشاريع الإنتاجية وغياب الشراكة بين الجامعات والقطاع الصناعي يجعل الأبحاث الأكاديمية حبيسة الأوراق، في الوقت الذي نجحت فيه ماليزيا مثلًا في تحويل أبحاث جامعاتها إلى منتجات تجارية وصناعية عبر إنشاء “مدن التكنولوجيا” التي تربط بين الباحثين والمستثمرين. في بيئة واحدة تُحول الأفكار إلى منتجات.

٤- البطالة المقنعة:
في مصر على سبيل المثال، يشكل خريجوا الجامعات نحو 30 % من العاطلين عن العمل، وفقا لتقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، بسبب عدم مواءمة المهارات مع احتياجات سوق العمل المتغير. وأيضًا بسبب عدم وجود المؤسسات الإنتاجية الكافية.

٥- البطالة والتطرف:
وجود خريجين عديدين ولمدة طويلة بدون عمل، يدفعهم للهروب إلى العالم الافتراضي ولجوئهم إلى الجماعات المتطرفة أو الغرق في وسائل التواصل الاجتماعي أو الألعاب الإلكترونية هربًا من واقعهم، كما حدث مع عدد كبير من الشباب في عدد من الدول العربية، والذين تحولوا إلى التنظيمات المتطرفة بعد فشلهم في إيجاد فرص عمل. وهكذا فإن الشهادة الجامعية أصبحت عبئًا بدلًا من أن تكون جواز مرور إلى العمل.

نماذج نجاح تُلهم الحلول
١- جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية في السعودية استثمرت في بناء شراكات دولية وإنشاء مراكز متطورة في الطاقة المتجددة، ما جعلها تحتل مراكز متقدمة في التصنيفات العالمية في مجالات الطاقة والمياه والتقنية الحيوية.

٢- مبادرة “مليون مبرمج عربي” في الإمارات.. ربطت بين التعليم التقني واحتياجات سوق العمل المتبدلة عبر تدريب الشباب على مهارات البرمجة، ما خلق فرص العمل عن بُعد مع شركات عالمية. إنها تجربة ناجحة في ردم الفجوة بين التعليم التقليدي واحتياجات العصر الرقمي.

٣- “تجربة الجامعة الأميركية في بيروت”
رغم التحديات نجحت الجامعة في دمج البحث العلمي مع قضايا المجتمع، مثل تطوير حلول لمشكلة النفايات في لبنان وتحويلها إلى طاقة.

“كيفية الخروج من النفق وإعادة بناء التعليم العربي العالي كمنصة للابتكار وإعادة الاعتبار للجامعة”.

١- تجديد الدماء في الإدارات الجامعية وتعيين قيادات شابة برؤية استشرافية، كما فعلت جامعة زايد في الإمارات بتعيين أكاديميين من خريجي جامعات مرموقة مثل هارفارد وستانفورد، لتطوير برامجها.

٢- “ربط التمويل بالنتائج”.. منح الجامعات ميزانيات وفقًا لجودة الأبحاث المنشورة وعدد براءات الاختراع المسجلة. كما يحدث في سنغافورة مثلًا.

٣- “خلق مسارات مهنية مرنة”.. متابعة ما يجري في العالم من تطورات علمية وتكنولوجية وإدخال التخصصات الضرورية المتعلقة بتلك التطورات مثل “الذكاء الاصطناعي” و”الاقتصاد الرقمي”، أو إدخال تخصصات مستقبلية، وتدريسها بمناهج قابلة للتحديث السنوي، كما تفعلها بعض الجامعات في العالم مثل جامعة  “CODEفي ألمانيا مثلًا.

“التعليم كاستثناء استراتيجي”
لا يمكن لمجتمعاتنا أن تبني مستقبلًا دون تعليم عال يُحرر طاقات الشباب ويحوّل أحلامهم إلى مشاريع ملموسة. آن الأوان لنتوقف عن التعامل مع الجامعة كمجرد مبنى أو عنوان على ورقة الشهادة، والتعامل معها كجبهة فكر، ومصنع للقيادات، ومحرك للتنمية. فكما قال نيلسون مانديلا: “التعليم هو السلاح الأقوى الذي يمكنك استخدامه لتغيير العالم”. آن الأوان لنجعل جامعاتنا منارات للفكر، لا مجرد جدران تُعلَق عليها الشهادات.

كاتب عماني

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .