نظر مدير دار المسنين إلى الشاب الذي سأل عن أوراق إيداع والده الدار وقال: إنّها أوراق عادية جدًّا، ما نحتاجه (فقط) صورة لأبيك البائس وهو يهمّ بأمّك المعلولة عند ولادتك إلى المستشفى، وصورة له وهو عائد من العمل وقد أنهكه التعب، وصورة له وهُو يهرول مُسرعًا بمنتصف الليل للمستشفى بعد ارتفاع حرارتك، وصورة عند عودته المنزل وهو جالس بجوارك على الأرض وأنت على سريرك واضعًا الكمّاد على جبهتك، وصورة وهو يتحمّل قهر الدنيا لتأمين الّلقمة الحلال من أجل أنْ تقف على قدميك وتكون سندًا له حين يتعب أو يضعف، وصورة له وهو يفكّر كيف يشتري لك ملابس العيد ليرى فرحتك وأنت تحضنها وتنام بها، وصورة لوالدك وهو يمسح دموعه التي اختلطت مع عَرقِه لحظة دخوله المنزل محاولاً إخفاءها عنك، وصورة وهو يستدين المال من أجل أن يدفع رسوم دراستك، وصورة وهو يُحاول أن يجمع المال ليفرح بك زوجًا وتصبح مثله أبًا!
وهو صنف الشاب عينه ما أكّده مُنظّرو “التآكل” الذي أوقع بالمشاعر الإنسانية بين أجيال حاضرة في جرفٍ هارٍ، وقتئذ فضّلت النأي عمّا ورد في كتاب ربّ الخلائق من محكمات وما سرده سيد الأبرار (ص) من أقوال في حقّ الوالدين والبرّ بهما و”الاستوصاء” فيهما والإكرام لهما في حياتهما والتراحم عليهما بعد مماتهما، في أوجب الواجبات وأجلّ الأعمال التي بمقدور الإنسان أن يقدّمها لوالديه بإرسال الدعوات إليهما والترحم عليهما والاستغفار لهما والمبالغة في توقيرهما والتشديد لاحترامهما بما يدخل السرور إلى قلبيهما بتفقّد حاجاتهما صغيرها وكبيرها، ومشاورتهما أمورهما في شاردها وواردها.
نافلة:
إذا ما ابتغيت من ربّ العزة والجلالة حصد الثمار اليانعات وزيادة الأجر الوفير، فعليك في طول الصحبة بالحسن وملازمة الطاعة بالقيام ما استطعت إلى أمّك التي أنجبتك وأبيك الذي رعاك، لماذا؟ لأنّ برّهما من أعظم القُرُبات التي ينشرح إليها الصدر وتُفرج عنها الكربة ويُقبل بها الدعاء ويعلو لأجلها الشأن ويطيب منها الذكر، كما هي من أقوى أسباب إعانة المعبود لعبده وفلاحه في العلم النافع وتوفيقه بالعمل الصالح في دنياه وآخرته، بل هي من أكمل الإيمان الذي يُبارك في الرزق ويُسدّد بالتّوفيق ويُكفّر السيّئات ويُضاعف الحسنات حتى نيل الرضا والقبول من العظيم الجليل الرحمن الرحيم الذي يُدخلك الجنّة ويُنجيك من النار.
كاتب وأكاديمي بحريني