لكل من وصل إلى منصب أو وظيفة مرموقة في المجتمع، ينبغي عليه أن يتذكر جهود مدرسيه في مختلف المراحل الدراسية باعتزاز كبير، والإرهاق المستمر الذي كانوا يعيشونه، والتعب الذي لا ينتهي بانتهاء الدوام المدرسي أو الجامعي، وإنما يستأنف المدرس عمله في البيت بين القراءة والتصحيح، ثم عليه بعد ذلك أن يكون زوجًا وأبًا أو ابنًا بارًا بوالديه.
وعندما نتحدث عن التضحيات الوطنية، يتوجب علينا أن نشير إلى الأعمال الكبيرة والتضحيات التي يقوم بها المدرس، تضحيات من أجل العلم والأخلاق والوطن. وهناك العديد من الأشخاص الذين لا يزالون يحتفظون بصور معلميهم، بل ويتكبدون مشقة السفر لزيارتهم إذا كانوا في دول أخرى، وأذكر أن الفنان نضال العطاوي، حينما كنا في مهرجان المسرح العربي في القاهرة عام 2019، زار مدرسه في المعهد أو الكلية في منطقة ريفية تبعد عن القاهرة حوالي ساعتين أو ثلاث ساعات. وقبل أشهر، طلبت من ابن ابنة عمتي في مدينة الخبر بالمملكة العربية السعودية الشقيقة أن يأخذني إلى مدرس اللغة العربية الذي درست عنده في المرحلة الإعدادية أو المتوسطة في نفس المدينة في منتصف الثمانينات، فقد تعلمت منه أشياء مهمة فتحت أمامي آفاقًا عقلية وجمالية جديدة، وبعد سؤال استغرق عدة أيام، اتصل بي قريبي ليقول لي “أستاذك تُوفي منذ أربع سنوات”.
رقص غول الحزن بداخلي بنشوة وانتابني عويل هائم في فضاء لا متناهٍ عند سماع خبر وفاة أستاذي، هذا الرجل الذي كان يراقب خطواتي الأولى في انتصار الكلمة وقدرتها على العطاء. كنت أريد زيارته لأقول له إنني لم أخذله في رؤياه وحصلت على مركز مرموق في المحافل الأدبية والفنية، لكن تذكرت أن لا أحد يقاوم زحف الموت.