العدد 5913
الأحد 22 ديسمبر 2024
banner
“طوفان الأقصى” النسخة الثانية المطورة من الربيع العربي
الأحد 22 ديسمبر 2024

في السابع من أكتوبر من العام الماضي هلل وكبّر ورقص البعض أو الكثير منا لما قامت به حركة “حماس” من غزة، عندما عبرت الحدود الإسرائيلية وأطلقت عملية “طوفان الأقصى” التي وصفوها بالعملية الفدائية الجهادية البطولية المشروعة، بينما اعتبرتها، رغم مبرراتها، شعوب ودول وأنظمة كثيرة، منها دول عربية وإسلامية، عملية إرهابية مرفوضة شنتها “حماس” وقتلت واختطفت أو أسرت فيها عددا كبيرا من الجنود والمدنيين الإسرائيليين بينهم نساء وأطفال، في أول عملية من نوعها تواجهها إسرائيل منذ قيامها.
وقد أشاد البعض أو الكثير منا بعملية طوفان الأقصى، وحلموا أو ظنوا أنها ستؤدي إلى حصول أشقائنا الفلسطينيين على حقوقهم المغتصبة، كامل حقوقهم وطموحاتهم. وهذه العملية، من وجهة نظرهم، بداية الطريق لتحرير فلسطين من البحر إلى النهر بما يعني زوال إسرائيل من الوجود، واعتبروا كل من اختلف معهم في هذا الطرح متخاذلا جبانا في أحسن الأحوال أو عميلا خائنا في غيرها.
بدورنا عبرنا عن تمسكنا بعدالة القضية الفلسطينية، وعن ألمنا وتعاطفنا وتفهمنا للظروف والأوضاع التي يعاني منها أشقاؤنا الفلسطينيون، خصوصا في غزة المحاصرة، لكننا اخترنا في الوقت نفسه الركون إلى الواقع وإلى العقل والمنطق أكثر من التعويل على الحماس والعاطفة؛ فالأمر في غاية الوضوح، وعملية طوفان الأقصى تعد بكل المعايير والمقاييس مجازفة أو بالأحرى مغامرة محسومة النتائج والعواقب، فعناصر القوة في هذا الصراع المسلح غير متكافئة بفارق شاسع واسع غير قابل للنقاش، وإسرائيل، شئنا أم أبينا، دولة متكاملة الأركان، محتمية بدعم لا محدود من أقوى دول العالم وأغناها، وتتمتع باعتراف دولي لا يمكن تجاهله وتخطيه، وهي تمتلك أقوى جيش في المنطقة متسلح بأحدث الأسلحة وأكثرها تطورا وفعالية، وبعقيدة لا تتردد عن الفتك والبطش.
حركة “حماس” في المقابل كانت، وأقول كانت مجرد حركة صغيرة الحجم بأي مقارنة، مجرد فصيل منشق عن الصف الفلسطيني، مكون من مجموعة تنتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين وترتدي مسوحا دينية في خطابها، ولا يعترف بها أو يقبل بوجودها الكثير من أنظمة ودول العالم، بما في ذلك عدد من الأنظمة والدول العربية، بل إن بعضها يعدها منظمة إرهابية منبوذة، إلا أنها مسلحة بإيمان راسخ وقوي بقضيتها وبقناعتها بأن تحقيق الحقوق الفلسطينية لن يتأتى إلا باستخدام العنف والقوة، وكل محارب في صفوفها مستعد للموت والشهادة في مقابل عدو يصر على الحياة والبقاء. 
وكنا قد قلنا لمن هلل وكبر ورقص عند انطلاق “طوفان الأقصى” لا تفرحوا ولا تطربوا ولا تشربوا نخب الانتصار، ولننتظر حتى النهاية، فالعبرة في النهاية كما يقول الحكماء، واليوم رغم أننا لم نصل إلى النهاية، إلا أن ملامحها أخذت في الاقتراب، والصورة أصبحت أكثر وضوحا، وهي ليست صورة تفرحنا أو تسرنا، وقد أصبح الكثير من نتائج وإفرازات عملية طوفان الأقصى ماثلة أمامنا وبكل وضوح أيضا، فإلى جانب مئات الآلاف من القتلى والجرحى والمفقودين والنازحين من الفلسطينيين في قطاع غزة، وتدمير أكثر من 80 % من بيوتها ومبانيها ومدارسها ومستشفياتها وباقي بنيتها التحتية ومرافق الحياة فيها، وصار شعبها مهددا بالتهجير، وغزة ذاتها أصبحت محتلة وتحت السيطرة الإسرائيلية ومهددة بالضياع والابتلاع، و “حماس” بعد أن تم القضاء على معظم أسلحتها وصواريخها وأنفاقها، وقتل أو اعتقال معظم مقاتليها، وتصفية أهم وأبرز قادتها، فقد فقدت الكثير إن لم نقل كل وزنها وحجمها وقوتها كحركة أو كتنظيم.
وحزب الله الذي جر لبنان إلى مواجهة مسلحة وغير متكافئة أيضا مع إسرائيل، صار الآن يترنح وربما يلفظ أنفاسه الأخيرة بعد الهجوم الكاسح الذي شنته إسرائيل ضده وأدى منذ بدايته إلى تصفية رؤوسه وقادته وكوادره القيادية وملاحقة من تبقى منهم، وتم اقتحام الحدود اللبنانية الجنوبية وتدمير القرى والبلدات والخطوط الأمامية لدفاعات الحزب، وتعطيل قدراته الصاروخية، وقطع خطوط الإمدادات العسكرية عنه بعد التطورات الميدانية والسياسية الأخيرة التي شهدتها سوريا، وتراخي الدعم السياسي والمادي الذي كان يتلقاه من إيران، بعد أن اضطرت الأخيرة إلى تغيير مواقفها والتخلي، كما كان متوقعا، عن حلفائها المكلفين مثل حزب الله ونظام بشار الأسد والبقية قادمة، وقد انهار أو  اختفى للأبد شعار “وحدة الساحات” أو “محور المقاومة”، كما اختفت من قبل كل الشعارات الفضفاضة والمشابهة مثل شعار “جبهة الصمود والتصدي” الذي رفعه في السبعينات أو الثمانينات من القرن الماضي المتاجرون بالقضية الفلسطينية ومصير الشعب الفلسطيني والقوى الرافضة لخطط التسوية والحل السلمي للنزاع العربي الإسرائيلي.
إن عواقب وتداعيات عملية طوفان الأقصى على الفلسطينيين والدول العربية تتجاوز ولا تنحصر في ما ذكرناه، بل إنها أضافت المزيد من التعقيد إلى مشهد النزاعات الإقليمية، وإن الأكثر والأسوأ سيتوالى علينا في المقبل من الأيام. إن عملية طوفان الأقصى، رغم ما حملته من رسائل رمزية واستراتيجية، لم تحقق حتى الآن فائدة ملموسة للفلسطينيين وقضيتهم العادلة، وحدثت في ظل وضع فلسطيني يعاني من الانقسام السياسي والمؤسساتي، ما يجعل تحقيق توافق وطني بين الفلسطينيين أكثر صعوبة، ويتركهم في موقف ضعف أمام أي مفاوضات مستقبلية، والمستفيد الأكبر من هذه العملية هو نتنياهو وحكومته المتطرفة، فهذه العملية أخرجت المارد أو الشيطان من القمقم، وأشعلت النار في المنطقة وجاءت بمثابة الحلقة أو النسخة الثانية المطورة لكارثة “الربيع العربي” لتكمل ما لم يكمله ذلك الربيع المشؤوم.
فها هي سوريا التي لم تتعاف بعد سنوات الحرب الطاحنة التي أشعلها الربيع العربي في العام 2011م، وتتجه نحو الاقتتال الطائفي والتقسيم بعد أن ينقضي شهر العسل الذي تعيشه الآن الأطراف والفصائل العديدة المسلحة التي جمعها ووحدها هدف الإطاحة بنظام بشار الأسد، إن طوفان الأقصى أعاد ألسنة اللهب لتلتهم ما تبقى من وحدة هذا البلد المنكوب. وقد استغلت إسرائيل واستفادت مما يحدث في سوريا، فتقدمت قواتها واحتلت المنطقة العازلة التابعة لهضبة الجولان والقنيطرة، وقام سلاحها الجوي بدك وتدمير كل القواعد والمطارات والموانئ العسكرية ومخازن الأسلحة، وأجهز على كل الطائرات والبواخر الحربية، وأعلن نيته توسيع الاستيطان في الجولان والمناطق التي احتلها قبل أيام.
وفي حال انهيار اتفاق وقف إطلاق النار على الأراضي اللبنانية بين ما تبقى من حزب الله والجيش الإسرائيلي وعودة التوتر بينهما، فإن لبنان سيصبح مرة أخرى مسرحا لاحتمالات الحرب الشاملة. هذا التصعيد لا يهدد فقط الأمن اللبناني، بل يضع هذا البلد المأزوم أمام كارثة اقتصادية واجتماعية لا تقل سوءا عن الحرب الأهلية.
إن طوفان الدمار والدماء والاقتتال الذي ضرب غزة وامتدت تداعياته إلى لبنان ثم إلى سوريا سوف يزحف إلى اليمن ثم العراق إذا لم تبادر الدولتان بفك ارتباطهما الوثيق بإيران، من ناحية أخرى فإن الحكومة العراقية قد لا تتمكن من كبح جماح الفصائل العراقية الشيعية المسلحة المدعومة من إيران وقوات الحشد الشعبي ومنعها من التدخل والعبور إلى سوريا في حال نشوب مواجهات بين الطوائف فيها، وهو تطور غير مستبعد.
وأخيرا، نحن في دول مجلس التعاون الخليجي، علينا أن نتوخى أقصى درجات الحيطة والحذر والتأهب، فنحن لسنا بعيدين عن مسرح الأحداث، وطوفان الأقصى وتداعياته وتسرب إرهاصاته للدول الأخرى المجاورة وضعتنا في مأزق سياسي وأمني جديد، فأحداث غزة قد تثير وتستفز الجماعات الخليجية المناهضة للتطبيع وتضاعف من ضغوطهم، كما أن أحدات غزة ولبنان التي شلت أو قصمت ظهر “حماس” وحزب الله خيبت آمال التيارات والجماعات والمنظمات الإسلامية السياسية الخليجية،  في حين إن نجاح الفصائل الإسلامية المسلحة في إسقاط نظام الأسد في سوريا سيقوي شوكتهم ويضخ الثقة والحماس في دمائهم، ويوفر لهم الأرضية الصالحة للتحرك ويوقظ خلاياهم النائمة، ومع كل ذلك فإن دول الخليج ممتنة لطوفان الأقصى؛ لأنه عرقل أو قضى على طموحات إيران ومشاريعها التوسعية في المنطقة، والله أعلم.

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية