حضرت في الشهر الماضي محاضرة قيّمة للدكتور محمود براهم، سفير الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية لدى مملكة البحرين، والتي ألقاها في جمعية تاريخ وآثار البحرين، وقد مهّد رئيس الجمعية د.عيسى أمين لتقديم الضيف وموضوع محاضرته باستعادة الذاكرة التاريخية الجميلة لما كان يحمله شعب البحرين من تقدير واعتزاز شديدين لكفاح الشعب الجزائري الشقيق الذي سطّر أروع ملاحم البطولة في نضاله الطويل الجبّار ضد الاستعمار الفرنسي( 1830- 1962) حيث تكلل هذا النضال على يد "جبهة التحرير الوطني الجزائرية" في المرحلة الأخيرة منه( 1954- 1962) بالنصر المؤزر وتحقيق الإستقلال الوطني.ويذكٌرنا أمين بأن الثورة الجزائرية كانت حاضرة في كل بيت بحريني من خلال ما كانت تبثه محطة "صوت العرب" المصرية من بيانات للجبهة وأخبار عن عملياتها وتعليقات حماسية مساندة لها، ومذكّراً أيضاً بالمزاد الذي عُرض في المحرق للبطلة التحرير الجزائرية الشهيرة جميلة بوحيرد، وحيث خُصص هذا المزاد لدعم الثورة الجزائرية. وفي مداخلتي أضفت من جانبي ما حظي به أيضاً الفيلم المصري" جميلة" من شعبية هائلة منقطعة النظير في دور العرض السينمائية البحرينية، والفيلم هو من بطولة ماجدة وزهرة العلا وأحمد مظهر وصلاح ذو الفقار، و من إخراج المخرج الكبير يوسف شاهين، وشارك في سيناريو الفيلم ثلاثة من كبار الأدباء المصريين،هم كل من : عبد الرحمن الشرقاوي وعلي الزرقاني ونجيب محفوظ. ومع أن الفيلم أُنتج عام 1958، أي بعد عام من اعتقال بوحيرد، إلا أنه ظل يُعرض لسنوات حتى ما بعد نيل الجزائر استقلالها. شخصيا أتذكر جيداً بأني قد شاهدته تحديداً في عام 1968 في "سينما الحمراء" إبان مرحلة دراستي الإعدادية، حيث كان يلهمنا حينئذ التاريخ العربي المعاصر المعد منهجه في القاهرة الناصرية، بما يتناوله من تلك الصفحات الكفاحية المجيدة للشعب الجزائري والصمود الأسطوري التي اجترحته البطلة جميلة بوحيرد، سواء في مواجهة معذبيها المستعمِرين أم خلال المحاكمة الصورية التي أُجريت لها في باريس.
أما سيرة السفير المحاضر الضيف د. براهم كما قدمها د. أمين فهي زاخرة بالمؤهلات والخبرات المديدة،نكتفي هنا بشذرات منها، فهو يتقن ثلاث لغات عالمية( الفرنسية والإنجليزية والأسبانية) علاوة على لغته العربية، ونال الدكتوراه في الاقتصاد بدرجة مشرفة جداً من جامعة غرينوبل، كما نال شهادة الماجستير في الترجمة بدرجة مشرفة جداً من جامعة الجزائر، وله العديد من المؤلفات والدراسات الإستراتيجية. ومن آخر المناصب والمهام التي تولاها قبيل تعيينه سفيراً لبلاده لدى المملكة : محاضر في الدراسات الإستراتيجية لدى عدد من من مؤسسات وهيئات الدولة( 2022- 2023)، وخلال هذه الفترة نفسها عُيّن مديراً لقسم اليقظة والدراسات الإستراتيجية بوزارة الخارجية والجالية الوطنية بالخارج.
وفي استعراضه لنقاط محاضرته تناول السفير الجزائري سطوراً من تاريخ الجزائر- نضالاً وكياناً وهوية ودولة- منذ التاريخ القديم وصولاً إلى التاريخ المعاصر، والذي أرجأه كجزء ثان يأمل أن يتناوله في سانحة قادمة.وفي هذا الصدد نوّه المحاضر الدكتور براهم بأن نواة الأمة والدولة الجزائرية إنما ظهرت خلال سلسلة الحروب البونيقية قبل الميلاد، وكذلك حرب يو غرطا ضد روما والتي دارت رحاها عام 111 ق.م فوق أرض ما يُعرف الآن بشرقي الجزائر، وهُزمت فيها الجيوش الرومانية، ثم تناول المحاضر الاحتلال الروماني للجزائر في القرن الأول قبل الميلاد والذي أستمر خمسمائة سنة ونيف، كما استعرض أبرز محطات التاريخ الجزائري بعد الميلاد، بدءاً من الاحتلال الوندالي سنة 249 ميلادية، فالاحتلال البيزنطي، ومروراً بالفتح الإسلامي سنة 660 الذي أكسب الجزائر هويتها الإسلامية والعربية الجديدة، وحيث تعاقبت على حكمها بعدئذ دول عديدة، منها الدولة الزيانية و الدولة العثمانية التي ساهمت في طرد الأسبان من الجزائر مما أذِن لتبلور كيان الجزائر هويةً ودولةً حديثة لاحقاً والتي أضحت أمتداداً للدولة الزيانية التي كانت عاصمتها تلمسان. ولإثبات وجود هذا الكيان استشهد المحاضر باتفاقيات ومواقف دولية تؤكد ذلك ، ومنها عقد اتفاقيات سلام وتجارة مع بريطانيا 1686 تم تجديدها لاحقاً مرات عدة، كما أبرمت الولايات المتحدة معاهدة صداقة وسلام مع الجزائر عام 1815، واختتم المحاضر محاضرته بتناول حقبة الأحتلال الفرنسي الذي دامت زهاء القرن وثلث القرن( 1830- 1962) مستعرضاً كفاح شعبه خلال هذه الفترة وظهور قادة عظام كان أبرزهم الأمير عبد القادر الجزائري لم يفت في عضدهم كل ممارسات المحتل من تهديد ووعيد ونفي واعتقال وكل أشكال التعذيب ، وصولا إلى تخوم انبثاق "جبهة التحرير" التي قادت المرحلة الأخيرة من كفاح الشعب الجزائري في غضون ثماني سنوات ( 1954- 1962) هي الأشد ضراوة متكللة بالاستقلال الناجز وحيث قدمت أكثر من مليون شهيد قرباناً لتطهير التراب الوطني من رجس المستعمِر الفرنسي.