يظن كثيرون خطأ أنه لا يجوز إجراء مراجعات نقدية وقت الحروب لكي لا يستفيد منها العدو، سيما إذا كانت ثمة مقاومة للظلم والعدوان، على نحو ما يرتكبه الاحتلال الإسرائيلي بحق الشعبين اللبناني والفلسطيني، وسبق أن تحدثنا عن نكسة 67 وقلنا إن أكثر من رفع هذا الشعار ضد المراجعة النقدية هو الزعيم جمال عبدالناصر تحت عنوان: “لا صوت يعلو على صوت المعركة”، لكنه وظفه في وجه الأصوات التي انتقدت طريقة حكمه في الداخل التي أفضت إلى النكسة. وحينما ذكرنا الدروس المهمة التي استفاد منها ناصر في مواجهة إسرائيل، أبدى بعض الزملاء السابقين خيبتهم الكبيرة من مقالي الماضي لأنه “كان ينبغي أن يكون عشاق جمال عشاقا لنصرالله.. لأن الأول قاد إلى هزيمة ماحقة والثاني قاد الأمة إلى انتصارين”! هكذا جاء ردهم حرفياً، وهما انتصاران ملتبسان وبحاجة لوضعهما على مشرحة التحليل الموضوعي وهو ما سنتناوله في مقال قادم. ثم هل زعماء الأحزاب فوق النقد؟ في تقديرنا أن المحلل الصحافي ينبغي أن يكتب ما يمليه عليه ضميره لا ما يرضي جميع القراء، إذ بوسعنا أن نؤثر طريق السلامة ونصمت، كما يفعل الكثير من الكتاب، متكتمين على ما بصدورهم، فهل هذا يرضي المنتقدين؟
المصيبة أن كلا التنظيمين “حماس” و”حزب الله” إنما أعادا اجترار أخطاء الفصائل الفلسطينية والقوى الوطنية اللبنانية، بدلاً من الاستفادة من دروس أخطائها، فالأول طفق يُجرّب العمليات الانتحارية في الباصات والمقاهي والأسواق داخل “الكيان” ثم تخلى عنها بصمت، ليجرب فاعلية إطلاق الصواريخ وخلافها من داخل القطاع، لكن هذه الوسائل الجديدة لم تثمر أيضاً للأسف، والثاني اندفع لتأييد الأول الذي توّج كل تلك الوسائل بقفزته الكبرى “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر من العام الماضي. ولا حاجة بنا لاستعراض نتائجها الكارثية المتواصلة منذ ذلك التاريخ، إذ ما برح الاحتلال يواصل حرب الإبادة بحق القطاع، أما حصادها الكارثي فبات معروفاً للقاصي والداني، حتى مع ما كسبته القضية الفلسطينية من تأييد عالمي غير مسبوق جراء الوحشية الصهيونية المفرطة تجاه سكان غزة.
والحال أن “الكفاح المسلح” منذ نكبة 1948 حتى يومنا أثبتت التجربة الفلسطينية عدمية نتائجه، لجملة من العوامل الموضوعية ليس هنا موضع تناولها، مثلما أثبتت التجربة اللبنانية فشل الحروب الأهلية في حسم الصراعات الطائفية أو الطبقية لإقصاء الطرف الآخر. ولعل الجزء الوحيد من الشعب الفلسطيني الذي وعى عدمية الكفاح المسلح منذ وقت مبكر غداة النكبة هم “عرب 48” فقد ظلوا متشبثين بكل قوة بجذور ترابهم الوطني، وتبنت قواهم الوطنية النضال السلمي طريقاً للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم، وانخرطوا في كل أشكال النضال القانونية، رغم تخوينهم لتبنيهم هذا الطريق وحملهم الجنسية الإسرائيلية، وتمكنوا من إيصال نواب إلى “الكنيست” منذ أول انتخابات غداة تأسيس “الكيان”، كما تمكنوا عبر صحافتهم العلنية من المحافظة على هويتهم وإحياء تراثهم العربي والفلسطيني، ومن بين صفوفهم خرجت كوكبة من الأدباء وكبار المثقفين، أمثال توفيق زياد وسميح القاسم ومحمود درويش ومحمد علي طه ومروان مخول وسليمان جبران وغيرهم.
ومن محاسن الصُدف أنني في الإجازة القصيرة التي قضيتها في “طرابزون” غداة التغريدة التي أحدثت زلزالاً من الغضب العارم لدى محبي زعيم حزب الله الراحل (وكانوا خليطاً عجيباً من مختلف القوى القومية واليسارية والشيوعية والإسلام السياسي الشيعي) أن تعرفت في هذه المدينة التركية على عائلة كبيرة (عائلة أبوفخري) من “عرب 48” من سكنة مدينة الناصرة، وكانت لي معهم دردشات يومية ممتعة ومفيدة عند مائدة الإفطار حول القضايا الإشكالية الشائكة في النضال الفلسطيني منذ النكبة حتى وقتنا الراهن، وودعتهم في اليوم السابع الأخير قائلاً: “اطمئنوا أنتم الجزء الوحيد الذي لن تتمكن سلطات الكيان من طردكم، ولن تفلح في إبادة أشقائكم في الخارج رغم كل الأخطاء القاتلة”.
وأياً كان طول الحرب الوحشية الراهنة التي يشنها الاحتلال على غزة ولبنان، فكل المؤشرات تقطع بأن قوة التنظيمين الفلسطيني واللبناني “حماس” و”حزب الله” لن تكون بنفس ما كانت عليه قبل الحرب، على الأقل من الناحية العسكرية، لكن ما قد يبشر بالخير أنهما - حسب تقديري - قد يستوعبان هذه المرة - حينما تتوقف الحرب وتهدأ النفوس - دروس أخطائهما وهي كثيرة، ولعل من أهمها عدم الارتهان للخارج (طهران)، مثلما اتعظ عبدالناصر من عدم الارتهان للخارج (موسكو) في حرب 67، ولعل مطالبة حزب الله مؤخراً بوقف إطلاق النار خطوة في الاتجاه الصحيح، وإن جاءت متأخرة، وهي ما طالبنا به وأثار حنق الغاضبين.
كاتب بحريني