العدد 5835
السبت 05 أكتوبر 2024
banner
بين ناصر.. ونصر الله
السبت 05 أكتوبر 2024

إثر نجاح إسرائيل في اغتيال السيد حسن نصر الله زعيم “حزب الله” راق لكثرة ممن صُدموا بالخبر، أن يشبهوا ظروف رحيله بظروف رحيل الزعيم جمال عبدالناصر إيماءً للفراغ الذي خلّفه كلاهما، من حيث تيتم الأمة لرحيل نصر الله (27 سبتمبر 2024) فيما آلة الإبادة الوحشية الصهيونية ماضية بلا كلل منذ عام كامل في حصد رؤوس الشعب الفلسطيني، وتيتم الأُمة إثر رحيل ناصر (28 سبتمبر 1970) في أوج مناخ هزيمة 1967 الظلامي الجاثم على الأُمة، ومع أن الأول أعلن الجيش الإسرائيلي في اليوم التالي من الغارة تصفيته، وتبعه بعد سويعات إعلان حزب الله، فإن أكثر ممن راقت لهم المقارنة بين الرجلين توهموا بأن رحيل نصر الله صادف يوم وفاة ناصر، ووضعوا في السوشال ميديا صورتيهما متقابلتين.

لكن ما أشد الفارق بين الزعيمين وبين الظروف التي تُوفيا فيها كلاهما، صحيح أن ناصر رحل في ظروف هزيمة قاصمة مؤلمة، لكنه تعلم كثيرًا من دروس أخطائه في حرب النكسة، ومنها أهمية تقدير موازين القوى العسكرية بين مصر وإسرائيل والمختلة بشدة لصالح الأخيرة عشية النكسة، فقد أحدث ناصر مرونة هائلة لم يُعرف بها طوال حكمه، فعشية حرب 67 قبِل بمبادرة سوفييتية للتفاوض مع إسرائيل لنزع فتيل الأزمة، لكن أحبطتها دمشق البعثية المتطرفة، وغداة الحرب قام بإنهاء الحرب الباردة بينه وبين دول عربية اعتبرها عقبة في وجه مشروعه القومي، وقبِل الرجل بقرار 242 الأُممي القاضي بانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية التي احتلتها في حرب 67، رغم زلزال المنظمات الفلسطينية المسلحة ضده وتخوينه لقبوله القرار، ووافق قبل ذلك على مبادرة روجرز للتفاوض على تنفيذ القرار 242، وإن عرقلت إسرائيل وواشنطن بعدئذ سُبل عقد التفاوض، واتهم ناصر أيضًا هنا بالخيانة من قِبل من وافقوا على “أُوسلو” بعدئذ وتخلوا عن الكفاح المسلح، وناصر فعل كل ذلك بالتوازي مع قيامه بحرب استنزاف مع الجيش الإسرائيلي على الضفة الشرقية من القناة، وتحضيره لخطط حرب تحرير سيناء التي أوشكت على الانتهاء عند رحيله. فماذا عن الحالة عند رحيل نصر الله؟.

قبل أن نتناول الظروف التي كان عليها حزب الله ووطنه لبنان عشية اغتيال زعيمه الذي شكل صدمة مباغتة لأعضائه، أقولها بكل تواضع لم أتفاجأ بما حدث وتوقعته تمامًا، كما جاء في مقالي “ثلاث رسائل للتصعيد الإسرائيلي” المنشور هنا بتاريخ 3 أغسطس الماضي، إثر نجاح إسرائيل في اغتيال القيادي في الحزب فؤاد شكر، إذ قلت إن إسرائيل أرادت بهذا التصعيد توجيه إنذار للحزب بأنها إذ تمكنت من رأس واحد من أهم قادته الميدانيين، فلن يهدأ لها بال إلا إذا وصلت إلى أعلى رأس في الحزب، وأن اغتيال شكر سيفضي إلى إرباك كل التحوطات الأمنية التي اعتادها الحزب على مدى أزيد من 30 عامًا لحماية قيادته، وهذا ما حدث تمامًا منذ وقعة “البيجر” وما سبقها وتلاها من اغتيال قيادات أُخرى في الحزب.

وإذا كان قرار ناصر خاطئًا بدخوله حرب 67 التي يعلم مسبقًا - كما ذكرنا مرارًا - لن يكسبها، معولًا على التدخل السوفييتي بتكرار سيناريو حرب 56، فهل كان قرار نصر الله سليمًا باتخاذه قرار خوض حرب مساندة لغزة ضد إسرائيل لحملها على وقف حربها على أهاليها؟ الجواب ببساطة بعيدًا عن العواطف لم يكن هذا القرار حكيمًا البتة، ولم يؤدِ إلى أي تأثير يُذكر لحمل إسرائيل على وقف حربها على غزة.

ولقد دفع الشعب اللبناني المنكوب جراء هذا القرار ثمنًا باهظًا للغاية - دماءً ودمارًا وتهجير نحو نصف مليون مواطن - وهو القرار الذي انفرد الحزب باتخاذه بمعزل عن التنسيق مع أعلى السلطات المعنية باتخاذ قرار خطير يتعلق بالسلم أو الحرب، وحيث تطال نتائجه الكارثية كل الوطن، لا الجنوب وحده وإن كان في مقدمته، واتخذ القرار أيضا في ظل بلد معروف بتعدديته الدينية والسياسية والثقافية ومؤسساته الشرعية الدستورية.

وقلنا في تغريدة أحدثت للأسف غضبًا عارمًا عند منتقديها: ألا يكفي هذا الشعب فخرًا ووسامًا على صدره ما قدمه من تضحيات هائلة طوال أكثر من 50 عامًا من أجل قضية شقيقه الشعب الفلسطيني؟ أما آن الأوان لندع هذا الشعب يلتقط أنفاسه قليلًا وهو يعيش أسوأ محنة معيشية واقتصادية طاحنة في تاريخه؛ ألا تكفيه موجات تلو الموجات من الحروب العدوانية الإسرائيلية والدماء والدمار والتهجير؟ وما الجُرم بحق القضية الفلسطينية لو أُتيحت له الفرصة للتضامن معها بأشكال سلمية أخرى؟ فلربما عادت بالنفع أعظم من الوسيلة العسكرية.

* كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .