غريبة وعجيبة الانتخابات الرئاسية الأميركية التي لا تبعد عنا سوى بضعة أسابيع، ذلك أنها تجري هذه المرة برسم محفزات غير مسبوقة في أية انتخابات رئاسية سابقة، والأمر يشمل الصعيد الداخلي والخارجي على حد سواء. جرى القول قديما وفي زمن الامبراطورية الرومانية إن من يعطي الخبز، هو عينه من يفرض الشريعة، ومن يدفع للجوقة هو نفسه من يحدد اللحن. في هذا السياق كانت وسائل التواصل التقليدية هي أدوات المرشحين للانتخابات الرئاسية الأميركية، وقد وصف بعض كبار الكتاب والصحافيين الأميركيين الذين قدر لهم تغطية حملة ترشح الرئيس دوايت أيزنهاور، كيف أنه كان يستقل القطار عبر المدن والولايات، إذ لم تكن التلفزة قد وجدت طريقها إلى عموم الأميركيين، وكم كانت معاناة القائمين على مثل هذه الحملة.
تغير الوضع بعد عدة عقود، وبات من يتحصل على تبرعات مالية أكثر يمكنه شراء أوقات دعائية متميزة أكثر في القنوات التلفزيونية المختلفة، وهذا ما حدث بالفعل في حملات الرئاسة الأميركية عام 2008، حيث كان السيناتور باراك أوباما هو المرشح الديمقراطي، والذي تفاءل به الأميركيون والعالم على حد سواء، بعد أن أقنع الجميع بتجرؤه على الأمل، وإن اتضح للقاصي والداني أنه كان أملا كاذبا، غير أن تبرعات صغيرة من فئة العشرة والعشرين دولارا، سمحت له بالفوز الكبير على منافسه الجمهوري جون ماكين. اليوم ونحن في منتصف العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين تبدو هناك أدوات غير معتادة في رسم مسارات الانتخابات الأميركية ومساقات الطريق نحو البيت الأبيض. في أعقاب المناظرة التلفزيونية الوحيدة التي جرت بين المرشحين للرئاسة الجمهوري الرئيس السابق ترامب والديمقراطي نائبة الرئيس الحالي كامالا هاريس، فوجئ الجميع بتغريدة على موقع إكس، تويتر سابقا، من جانب المغنية الأميركية الشابة “تايلور سويفت”، تحث الناخبين الأميركيين على المشاركة الجدية في نوفمبر المقبل، وتدعو لانتخاب هاريس. النتيجة المفاجئة تمثلت في أن أكثر من 300 ألف شخص، بدأوا مباشرة البحث في الموقع الأميركي الحكومي المخصص لمعرفة مكان اقتراع كل مواطن، الولاية، والمدينة واللجنة، وكل ما يلزم.
ولعل الأكثر إثارة هو أن سويفت لديها على شبكات التواصل قرابة 280 مليون متابع، هؤلاء باتوا يشكلون تيارا عاما في الداخل الأميركي، يطلق عليه “السويفتيون”، أي المعجبون بتايلور، والذين يستمعون إلى أغانيها ويكادون يضحون مهووسين بها، ويسيرون على درب توجهاتها السياسية. هل سويفت هذه إذا قادرة على تغيير الأوضاع وتبديل الطباع، لجهة أي مرشح وفرص فوزه أو إخفاقه؟ من الواضح أن ذلك كذلك، وعلى غير المصدق أن يراجع أوراق الانتخابات الرئاسية الأميركية عام 2000، حيث فاز بوش الابن بسبب خمسمئة صوت وليس أكثر في فلوريدا على منافسه آل جور، وحتى لو كانت أصواتا مزيفة.
هل بات الدخول إلى البيت الأبيض رهنا بإرادة المشاهير، لاسيما من المغنين والممثلين الهوليووديين، وقد كان أحدهم “جورج كلوني”، أحد الأسباب التي عجلت بمغادرة بايدن سباق الانتخابات الرئاسية الحالية بعد نقده اللاذع له؟
مؤكد أن الأمر يجري بالفعل على هذا النحو، وللمرء أن يتخيل تأثير لاعب الكرة الشهير رونالدو، لو مضت ميوله لجهة أحد المرشحين، وتبعات ذلك في الداخل الأميركي وكذلك في الخارج.
وصل كريستيانو لاعب النصر الحالي ومانشستر يونايتد وريال مدريد ويوفنتس السابق إلى إنجاز المليار متابع على وسائل التواصل الاجتماعي بفضل أكثر من 639 مليون متابع على “إنستغرام” و170 مليونا على “فيسبوك” و113 مليونا على “إكس”. أية قوة انتخابية تمثلها مثل هذه الحسابات الخاصة بالمشاهير في الانتخابات الرئاسية الأميركية المقبلة.
لكن في نفس الوقت، يمكن أن تمثل هذه الحسابات كارثة سياسية بكل معانيها، لاسيما حال تطويعها لصالح ومصالح قوى أجنبية خارجية.
لم يعد سرا القول إن هناك عددا من الدول، على رأسها روسيا والصين وإيران، تحاول التدخل جديا في التأثير على الناخب الأميركي، وأفضل طرق تسربها إلى الرأي العام، تتمثل في استغلال حسابات هؤلاء المشاهير بطرق غير مباشرة. السؤال قبل الانصراف: “هل هذه انتخابات بالحق ديمقراطية؟”.
كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية