تابع العالم الثلاثاء الماضي المناظرة التلفزيونية الأولى، بين المرشحين الرئاسيين للولايات المتحدة الأميركية، كامالا هاريس ودونالد ترامب، ولعل التساؤل الذي خرجت به جموع الأميركيين: “هل كان بينهما الرئيس الذي تستحقه الولايات المتحدة بالفعل؟”. بداية يمكن القطع بأن المناظرة لم تكن عادلة أو منصفة بصورة أو بأخرى، وقد شاهد العالم تمايزا واضحا في المعاملة من المحاورين التابعين لشبكة ABC للأخبار، والتي مارست ضغوطات على ترامب، ولم تقدم على إحراج هاريس بالشكل نفسه، وكأن الدور الذي كان مرسوما لها هو إظهار إخفاقات ترامب.
أظهرت لنا المناظرة الأخيرة أن هناك بالفعل أزمة قيادة كاريزماتية في الداخل الأميركي، فلا هاريس ولا ترامب، هما من يمكنهما أن يعيدا الشموخ والألق لأميركا جون كيندي، أو رونالد ريغان، ولن نعود إلى الماضي البعيد في زمن توماس جيفرسون أو إبراهام لنكولن. بدت المناظرة وكأنها فرصة لإظهار مقدار الضغائن في النفوس، لا برسم الخطط المستقبلية لبناء أميركا الجديدة، أي أن شبح الماضي كان يلوح طوال التسعين دقيقة مدة المناظرة، وغاب المستقبل، إذ لم تفلح هاريس في تقديم صورة كاملة عما يمكن أن تقدمه لأميركا على الصعيد الداخلي الذي يحتاج إلى تسامح وتصالح قبل أن تمسك النيران بأهداب النسيج المجتمعي الأميركي، وعلى الصعيد الخارجي، بعد أن بات أعداء أميركا لا يهابونها، فيما حلفاؤها لا يصدقونها أو يثقون بها. هل ترامب وهاريس كلاهما خطر على الأمن القومي الأميركي، انطلاقا من هذه الجزئية؟ بداية يمكن القول إنه إذا كانت الإخفاقات العديدة لإدارة بايدن بمثابة دليل على رؤية كامالا هاريس للسياسة الخارجية، فلا يمكننا أن نتوقع أقل من المزيد من تدهور الردع والمصداقية الأميركية إذا احتلت البيت الأبيض. خلال مناظرة الثلاثاء الماضي، لم تغير نائبة الرئيس تصوراتها للسياسة الخارجية لبايدن – هاريس، ولهذا بدت ضعيفة بشكل ملحوظ. لم يخلص أي من الذين تابعوا المناظرة الأخيرة إلى أن هاريس هي الشخص الذي يطمئن الأميركيين، كونها زعيمة قوية، قادرة على التصرف بحسم وحزم، حال إيقاظها في الثالثة فجرا على أخبار غزو الصين لتايوان.
أو استخدام موسكو أسلحة غير تقليدية ضد أوكرانيا، وهذه مشكلة كبيرة أن يبدو الرؤساء ضعفاء في أعين مرؤسيهم.
على النقيض من ذلك، انتهج الرئيس ترامب سياسة السلام من خلال القوة. فقد دمر خلافة داعش القاتلة بقتل زعيمها البغدادي، وعلى عكس إدارة أوباما وبادين، أمر ترامب بشن ضربة صاروخية على سوريا بعد أن استخدم نظامها الغاز المسيل للدموع، وربما السام ضد شعبها، وهو من ألغى الاتفاقية النووية سيئة السمعة مع إيران، وأعطى أوامر واضحة باغتيال قاسم سليماني.
لكن وعلى الرغم من هذا، هناك من يوجه اتهامات لترامب بأنه بدوره قد يكون أخطر على الأمن القومي الأميركي.. كيف ولماذا؟
يبدو أن الأمر مرجعه يعود إلى شخصيته، فعلى الرغم من أنه نجح في كبح جماح غضبه، واستمع جيدا لنصائح مستشاريه، إلا أن مشكلته بدت تتجاوز حدود “التغريدات الشخصية المثيرة”.
كان هناك فخ وربما فخاخ نصبتها له هاريس، وقدر لها أن تستفزه بالفعل بشكل كبير، ما جعله يفقد قدرته على طرح رؤية متماسكة أو صورة عامة لولايته أو رئاسته القادمة، ولهذا عاد كثيرا إلى الماضي، وتناول من جديد فكرة المؤامرة الرئاسية التي تعرض لها قبل أربع سنوات، ما جعله في أعين ملايين الأميركيين رجلا ماضويا لا مستقبليا.
إن الدرس الذي يمكن أن يتعلمه الخصوم الأجانب واضح للغاية، فهم قادرون على استغلال ترامب كما لو كان يعزف على القيثارة.
كما أن الدرس الذي يمكن أن يتعلمه الناخبون الأميركيون واضح بقوة بدوره: إن ترامب متهور للغاية بحيث لا يمكن الوثوق به فيما يتصل بسلطة الرئاسة، بما في ذلك الأسلحة النووية على وجه الخصوص.
هل يعني ذلك أن هناك حاجة أميركية ماسة إلى رئيس كاريزماتي يجمع بين قوة الشخصية ورجاحة العقل، وأن يكون قادرا على التوفيق لا التفريق بين الأميركيين، ومعالجة الجراح المجتمعية التي لحقت بالأمة منذ انتخابات عام 2020؟.
أميركا تنتظر غودو الذي قد يطول انتظاره، وربما لا يجيء.
*كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية