في دراسة حديثة أوردتها شبكة الإذاعة التلفزيون البريطانية BBC وُجدَ أنَّ ما يزيد على 44 % من القوة العاملة في بريطانيا تمارس مهام عملها عن بُعد، وأنَّ نحو ربع تلك القوة البشرية تعمل من أماكن عامة مُزوَّدة بشبكة الإنترنت مثل المقاهي، والحدائق العامة، والمراكز التجارية وغيرها. الدلائل حول العالم تشير إلى أنّ هيكل سوق العمل والوظائف يتحوَّل بشكل جوهري نحو العمل عن بُعد، وخاصة في المجالات الحيوية المتعلقة بتقنيات المعلومات والذكاء الاصطناعي، حيث تصل نسبة العمل إلى ما يقرب من الثلث.
أمّا على المستوى العالمي فتشير الإحصاءات في نهاية عام 2022 إلى أنَّ نحو 18 % من الموظفين حول العالم يعملون عن بُعد بشكل كامل، في حين أن 45 % منهم يعملون بشكل هجين، وقد وصلت نسبة العمل الهجين في الولايات المتحدة في أخر البيانات المُتاحة إلى نحو 58 % من إجمالي الوظائف، ونسبة العمل عن بُعد بالكامل إلى نحو 35 %. على صعيد أخر، أظهرت بعض الدراسات الميدانية (استطلاعات الرأي) أنَّ نحو 74 % من القوة العاملة عالمياً ترغب في العمل عن بُعد.
كما أظهرت الدراسات أنَّ النسبة الكبرى من العاملين عن بُعد أو بشكل هجين هي من عنصر الشباب من الداخلين الجدد على سوق العمل (في الفئة العمرية بين 16 و24) وبنسبة تتجاوز 75 %، أمّا الفئة العمرية بين (25 و34) فتصل فيها تلك النسبة إلى نحو 56 %. وأخيراً وليس آخراً، ترتفع نسبة الإناث عن الذكور في مجال العمل عن بُعد، حيث يجدن مجالات لإنتاجية وأمان أعلى، وتوازنٍ مهني اجتماعي أفضل.
الشاهد ممّا سبق أنَّ سوق العمل العالمي بات قرية رقمية صغيرة يمكن لكلِّ مَن لديه المهارات الرقمية، ومهارات الاتصال والتواصل، ومهارات اللغة الأجنبية أن يدخل إليه وينافس على الوظائف فيه بقوة. وفي ظل معدلات البطالة المرتفعة في العديد من الدول يصبح المطلوب تأهيل القوى العاملة المحلية لكلِّ بلد لتكون منافسة عالمياً؛ لأنَّ القصة لن تكون في إحلال العمالة الوافدة بعد اليوم، ولا في التدريب والتأهيل التقليدي، ولا في المزيد من الشهادات الأكاديمية، بل في تطوير الكفاءات، وبناء القدرات، والتأهيل العلمي والمهاري بحيث يمتلك الأفراد تعليماً معرفياً، وقدرات رقمية، ومهارات النفاذ إلى وسائل التواصل المهني والاجتماعي المتنوعة.
الدول التي تعصف بها نسب بطالة ذات الرقم المزدوج، أمام صُنّاع القرار فيها فرصة وأزمة، فرصة للتخلص من البطالة بإدماج قوتها العاملة، من القادمين الجدد، وأجيال الانتظار المتراكمة عبر السنين، للعمل عن بُعد عالمياً، أو أزمة تتراكم فيها البطالة، أجيال وراء أجيال بسبب التخلُّف عن الركب، وهي دول لن تنتهي فيها البطالة إلا من خلال الخروج من سوق العمل بالهجرة أو بالوفاة.