لم تتحقق المنظومة الأخلاقية والحقوقية الإنسانية المعبر عنها بالمواثيق والاتفاقيات الدولية بين عشية وضحاها، بل كانت نتاج قرون من تطور الفكر الإنساني العالمي، وعصارة لجهود فلاسفة ومفكرين، مهدوا لثورات شعوبهم لنيل حرياتها وحقوقها الإنسانية داخل بلدانهم، لكننا نرى اليوم تلك المنظومة الأخلاقية والحقوقية للقيم الإنسانية المشتركة والتي تحققت وتطورت بوجه خاص في أعقاب الحرب العالمية الثانية قبل سبعة عقود ونيف، بدلاً من أن تصبح أكثر تطوراً ونحن نغادر الربع الأول من قرننا في الألفية الثالثة، وبدلاً من أن تنعكس مواثيقها وشرائعها الدولية في وعي الشعوب والدول، تكاد تتعرض للزوال، أو على الأدق إلى مجرد حبر على الورق.
ولعل نتائج انتخابات البرلمان الأُوروبي الأخيرة التي انتهت بفوز اليمين المتطرف في عدد من الدول الأُوروبية المهمة، ولاسيما في إيطاليا وفرنسا وألمانيا، مؤشر على تراجع في الوعي والإيمان بالقيم والحقوق الإنسانية التي يحق لهذه البلدان نفسها أن تفتخر بأن مفكريها وفلاسفتها كانوا ممن مهدوا بأفكارهم العظيمة لتطور ومأسسة تلك القيم والحقوق الإنسانية المشتركة.
على أن هذه المؤشرات نحو اتجاه الناخب الأوروبي نحو اليمين المتطرف ليست مؤشرات مطلقة، إذا ما تذكرنا بأن المشاركات الانتخابية لم تزد على 50 % في أحسن الحالات افتراضاً، وأن تلك النتائج ليست إلا الوجه الأول من المشهد السياسي، ففي هذه البلدان ذاتها، تمثل ضميرها الإنساني والأخلاقي فيما شهدته جامعاتها وشوارعها من مظاهرات عارمة ضد الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل بحق السكان المدنيين الفلسطينيين في قطاع غزة، علاوة على مظاهرات أحزاب اليسار والخضر الاحتجاجية التي انطلقت في فرنسا فور إعلان النتائج الانتخابية.
وهذا يعني أن الصراع الفكري بين الدفاع عن ما توصل إليه الفكر الإنساني من تطور حقوقي، كما تعبر عنه أفكار اليسار والخضر واليمين المعتدل الليبرالي من جهة وبين أحزاب اليمين المتطرف المعادي للفكر الحقوقي والإنساني والمنادي بتبني فكر عنصري ضد الأجانب والمهاجرين هو صراع لم يُحسم بعد لصالح هذا اليمين المتطرف.
لقد ظل مصطلحا اليسار واليمين طوال الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكي بزعامة الاتحاد السوفييتي والمعسكر الرأسمالي بقيادة الولايات المتحدة يُوظف للتعبير عن أحزاب وأنصار الآيديولوجيتين العالميتين المتعارضتين، الرأسمالية والاشتراكية، لكن بعد انهيار الاتحاد السوفييتي وتضعضع قوى اليسار العالمي، لم يعد اليوم هذان المصطلحان يعبران عن الاصطفاف بين المعسكرين المتصارعين، بقدر ما يعبران عن فضاء فكري أكثر اتساعاً من مفهوميهما القديمين، فاليمين المتطرف أضحى ممقوتاً ليس من اليسار فحسب، بل من كل قوى الخير والسلم والعدالة الإنسانية في العالم المؤمنة بالمحبة البشرية والقيم الإنسانية المشتركة على اختلاف دياناتهم وثقافاتهم وأعراقهم، وأضحى اليسار يرمز إلى التوق إلى هذا العالم الجديد الذي تظلله قيم المحبة والحقوق الإنسانية والسلم، وإلى عالم خال من الحروب والعنصرية. ولعل حسم الصراع بين اليمين المتطرف واليسار المعتدل إنما يتوقف على إقامة أكبر جبهة عالمية تُحشد فيها أعرض قوى متضررة من وصول اليمين المتطرف في جميع أنحاء العالم، وهذه الجبهة لا يمكن بناؤها ما لم تتمكن قوى اليسار العريض العالمي بمختلف تلاوينه بدءها من على المستوى القُطري فالإقليمي.
- كاتب بحريني