يُعد كتاب طه حسين "مستقبل الثقافة في مصر" الذي كتبه عشية الحرب العالمية الثانية في 1938 في الوقت الذي كان يرزح وطنه تحت الأحتلال الإنجليزي، من أهم التي ألّفها، ولعله يحتل المرتبة الثالثة في الأهمية بعد كتابيه "في الشعر الجاهلي" و "الأيام"، فهو كهذين الكتابين ما انفك جدل المثقفين المصريين والعرب يتجدد حولهما، سيما الكتاب الأول، ورغم أهمية مؤلفه "مستقبل الثقافة في مصر" لما طرحه من أفكار صادمة للجدل حول هوية مصر ومستقبلها الثقافي ومازالت كثرة من الصحافة المصرية والعربية تخصص له دراسات ومقالات تتناوله بالعرض والتحليل النقدي، سواء خلال حياة طه حسين أو خلال العقود اللاحقة من بعد مماته. على أن ما يثير استغرابي أن النسخة التي بين يدي هي النسخة الثالثة الصادرة عام 2015 عن دار المعارف، ولا أعرف عما إذا صدرت بعدها طبعة أو طبعات لاحقة عن نفس الدار.
ولعل من أهم الكتابات التي تناولت الكتاب على مشرحة التحليل الموضوعي النقدي الدراسة التي كتبها المفكر الراحل فؤاد زكريا عام 1938 بمناسبة مرور نصف قرن على صدور أول طبعة من الكتاب،والملاحظ أن زكريا قد أسهب في مقدمات مقاله التحليلي،لكنه بعدئذ عرض أفكار مؤلفه للتحليل تحت أربعة عناوين:
الأول: التفاؤل والسذاجة: حيث لاحظ زكريا بأن أحاديث طه حسين فيه تغلب عليه نبرة التفاؤل بالمستقبل وبالخلاص من المستعمِر، ويرى أن هذا التفاؤل بعد مضي خمسين عاماً من صدور الكتاب قد تبدد، فقد زُرعت إسرائيل في قلب العالم العربي 1948 بعد سنوات قليلة من انتهاء الحرب العالمية الثانية، وأجهزت على الطابع الليبرالي لبعض الأنظمة العربية لتحل محلها أنظمة ثورية قومية عسكرية، قفزت إلى السلطة بحجة تخاذل الأولى عن نصرة فلسطين، صادرت الحريات العامة، وكرست عبادة الفرد، فيما قادت بلدانها إلى خسائر عسكرية كارثية أفدح مما تسببته الأنظمة الملكية.
الثاني: الشرق والغرب، وتحت هذا العنوان يحلل زكريا أكثر القضايا التي انطوى عليها الكتاب إثارةً للجدل عند معظم من تناولوه بالنقد، ذلك بأن طه حسين اعتبر أن النهضة أو الثقافة المصرية هي جزء لايتجزأ من الثقافة أو النهضة الأوروبية، وانتقد زكريا التقسيم التعسفي الذي أتبعه حسين للثقافات العالمية الكبرى، بأن زعم أن هناك ثقافة خاصة بالشرق الأقصى( الصين واليابان) وثقافة خاصة بحوض البحر المتوسط التي تنتمي إليها مصر وأُوروبا، وهذا ما يلغي وجود الثقافة العربية المعروفة بسماتها الخاصة، رغم اعترافه بوجود صلات بين مصر وأقطار فلسطين والشام والعراق، كما أخذ على طه حسين إدراجه العراق ضمن حضارة البحر المتوسط، وتناسيه البعدين الأفريقي والآسيوي للحضارة المصرية.
ثم يتناول زكريا التناقض الذي وقع فيه في كتابه" مستقبل الثقافة في مصر" ففي الوقت الذي يدعو فيه للأخذ بالليبرالية الأُوروبية، فإنه يشن حملة شعواء على التعليم الأجنبي في مصر، داعياً الدولة إلى مراقبة المدارس الأجنبية،منبهاً لأهمية التوسع في إدخال مناهج اللغة والتاريخ والدين، ما يعني اهتمامه بهوية مصر وخصوصيتها. وإذ أخذ زكريا على حسين إلى أنه لم يلتفت إلى أن الغرب لم يبني حضارته إلا بفضل استغلاله وسرقته ثروات الشرق، ومنه عالمنا العربي، فلعله فاته التذكير بأن المرتكز الرئيسي الذي استند عليه الغرب في نهضته الحديثة إنما هي مستمدة أصلاً من الإنجازات العلمية العربية- الإسلامية إبان عصرها الذهبي.
الثالثة: الأستقلال، وتحت هذا العنوان انتقد زكريا المؤلف لدعوته إلى الأخذ بالديمقراطية الغربية في السياسة، وكذلك تبني الأساليب الغربية في التعليم والاقتصاد باعتبارها الطريق الوحيد لتحقيق استقلالنا عن الغرب، ورأى زكريا أن طه حسين بهذا المفهوم المتفائل يغفل إشكالية التبعية للغرب التي برزت بعد استقلال الدول المتحررة من نير الاستعمار.
الرابعة: الليبرالية،وإذ يرى زكريا بأن هذه الصفة أُطلقت على المفكرين التنويريين خلال النصف الأول من القرن العشرين، وعلى رأسهم طه حسين نفسه، فإنه يأخذ على أصحاب هذا المفهوم تجاهلهم الركيزة الثانية التي يقوم عليه هذا المفهوم الذي برز وتبلور بعد الثورة الصناعية، وهذه الركيزة الثانية تقوم على الاقتصاد الحر وعدم تدخل الدول في آليات العرض والطلب، ويرى زكريا أن النظام الرأسمالي لايصلح لدول العالم الثالث الأكثر حاجة لنظام يأخذ بالعدالة الاجتماعية كدول فتية تعرضت عقوداً أو قروناً من الإفقار والتخلف من قِبل الاستعمار. ومن جانب آخر يلفت زكريا الأنتباه إلى أن الليبرالية التي ينادي بها حسين إنما تتعارض مع ما يدعو إليه لأشراف الدولة على التعليم ومجانيته، وانتزاعه من الأفراد والمؤسسات الخاصة وإخضاعه للتخطيط المركزي لصالح الطبقات الفقيرة، وتقليل التفاوت الطبقي.
النقطة الخامسة: حدود العودة للماضي، وهنا يلتقط زكريا مسألة في غاية الأهمية، حيث يقارن بين العصر الذي كتب فيه العميد كتابه، وهو عصر يتسم بالانفتاح والتنوير، وبين العصر الذي كتب فيه زكريا نقده للكتاب والذي ما برحنا ونحن في منتصف العقد الثالث من الألفية الجديدة نتخبط في ظلماته حيث صعود الموجة الظلامية السلفية في أعقاب كارثة يونيو 1967، ويدلل زكريا على ذلك بالفقرة التي اقتبسها من الكتاب والتي يؤكد فيها بما يشبه الحزم والقطع " فالمسلمون فطنوا منذ عهد بعيد إلى أصل من أُصول الحياة الحديثة، وهو أن السياسة شيء والدين شيء آخر، وأن نظام الحكم وتكوين الدول إنما يقومان على المنافع العملية قبل أن يقومان على أي شيء آخر" .