حرف “لو” في نحونا الخالد المخلد حرف امتناع الجواب لامتناع الشرط، بمعنى انتفاء تحقق الجواب، لامتناع الشرط، كقولك: لو توجهت إلى عملك مبكراً لما تأخرت عن ميعاده، وهو حرف لا محل له من الإعراب. وفي الأثر الشريف فإن “لو” تفتح عمل الشيطان. أما في التاريخ السياسي فإنه يسير بقوانينه الخاصة، لا ينفع المنهزمين في حروبه التأسي بـ “لو” المعذبة للذات، من نحو “لو فعلنا كيت لما حدث كيت”. بيد أن “لو” مفيدة بعد أن تسكت المدافع للمراجعات واستخلاص العِبر. شخصياً لطالما عذبني حرف “لو” لرحيل الرئيس المصري والزعيم العربي جمال عبدالناصر عام 1970 ولم يتجاوز عمره 52 عاماً قبل عام واحد فقط من الموعد المضروب لحرب تحرير سيناء، حيث كانت اللمسات الأخيرة لخطة العبور العسكرية شبه جاهزة بقيادته، وبمساعدة الفريق الأول محمد فوزي وزير الحربية والشهيد الفريق عبدالمنعم رياض رئيس هيئة الأركان، فلطالما كنت أقول لنفسي: لو عاش عاماً إضافياً واحداً لحقق نصر العبور وعظّم مكتسباته السياسية، كحرب 56، حتى لو لم يتمكن من تحرير سيناء كاملة، ولما وقعت ثغرة الدفرسوار، ولما عانى العرب ما عانوه ويعانونه من هزائم وانكسارات سياسية وعسكرية متتالية وصلت ذروتها في حرب الإبادة الحالية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي على سكان قطاع غزة المدنيين. وحين التقيت في حوار صحافي أجريته عام 2016 مع السفير المصري عبدالرؤف الريدي، وهو من خيرة السلك الدبلوماسي المصري في “مكتبة مصر العامة” المطلة على النيل في الجيزة، والتي كان مبناها سابقاً فيلا سكن المشير عبدالحكيم عامر بطل نكسة 67، وتمت محاصرته واعتقاله فيها بعد الهزيمة لتمرده العسكري، أقنعني بأن التاريخ كثيراً ما تقع أحداثه بمعزل عن توقعاتنا وأمانينا، فأنت لا تستطيع التنبؤ يقيناً بمجريات الحرب، أو التطورات السياسية داخلياً وإقليمياً ودولياً.
وهكذا فعلت “لو” فعلها معي أيضاً بعد “غزو الكويت”، والذي كان نكسة عربية بامتياز كشفت أمننا القومي، ومزقت آخر ما تبقى لنا من ركائزه، وأجهزت على الحد الأدنى من الروابط التضامنية الرسمية مع القضية الفلسطينية.
وما ينطبق على “لو” النكسة للعِبر والمراجعة، ينسحب على “لو” النكبة وحرب 56، فإذا كان قرار العرب والفلسطينيين برفض قرار التقسيم صائباً، فالأصوب كان البناء عليه كأمر واقع بعد النكبة وتأسيس الدولة الفلسطينية على الأراضي المعهودة السلطة عليها لدولتين عربيتين (قطاع غزة والضفة الغربية) وهذا لم يحدث، تحت وهم حرب التحرير النظامية الشاملة التي رفعت شعارها خصوصاً الأنظمة القومية الثورية، وأسست جيوشاً فلسطينية تابعة لها للاستعراضات ليس إلا. وفي حرب السويس أثبت المشير فشله كقائد عسكري، لكنه وهو الصديق الحميم للزعيم، تمت ترقيته بثلاث درجات إلى رتبة “مشير” دفعة واحدة، وكان هو نفسه من الأسباب الرئيسة لكارثة انفصال سوريا عن الجمهورية العربية المتحدة 1961، لكنه مع ذلك بقي في منصبه ليقود أعظم جيش عربي بعدئذ إلى كارثة نكسة 1967!
وأخيراً لو لم تنتهج الفصائل الفلسطينية استراتيجية “الكفاح المسلح” داخل دول عربية تصادمت هذه الفصائل مع سياداتها ومصالحها وانتهت ملاحمها البطولية بالخروج المذل من تلك الدول، فبقبول قيادة منظمة التحرير باتفاق أُوسلو 1993 المخزي، لما حدث ما حدث من هزائم ولما تفتت المنظمة منذ الاتفاق، بالصورة المريعة التي مازلنا نتابع فصولها المأساوية.
كاتب بحريني