العدد 5709
السبت 01 يونيو 2024
مقتل “رئيسي”.. وعفاريت المؤامرة
السبت 01 يونيو 2024

لم تمض سوى بضع دقائق من الإعلان عن اختفاء أو سقوط طائرة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي عائداً إلى بلاده من زيارة رسمية لأذربيجان، حتى انطلقت في عالمنا العربي على الفور “نظرية المؤامرة” من قمقمها بمختلف أشكالها، مؤكدة بجزم قاطع أن أيدي الموساد تقف وراء الحادث، باعتبار إيران ألد أعداء إسرائيل في المنطقة والداعم الأول للمقاومة الفلسطينية.. والمدهش أن ثمة شخصيات وقوى سياسية عربية سارعت بتبني هذا التفسير للحادث، في حين لم يصدر أي موقف رسمي إيراني يشاطر أصحاب نظرية المؤامرة.
أكثر من ذلك، فقد اعتدت أن أقوم سنوياً بزيارة سياحية دينية مع العائلة إلى مدينة مشهد المقدسة الجميلة وذات الطقس الرائع في بدايات صيف الخليج وعند أواخره، وهو طقس مفيد للاستشفاء لذوي الأمراض المزمنة، وقد تزامن وصولنا مع انتهاء مراسم تشييع ودفن الفقيد الرئيس الراحل في المدينة. وفور خروجنا من المطار تجاذبت أطراف الحديث مع سائق التاكسي الذي يفهم العربية قليلاً، فأكد لي أن الحادث لم يكن سوى قضاء وقدر. وطوال ما يقرب من عشرة أيام قضيتها في المدينة لم أعثر على إيراني واحد ينحو بأسباب سياسية وراء الحادث. أما التفسيرات والتحليلات الموضوعية الدولية والمحايدة فجميعها تتفق بتضافر عوامل متشابكة أدت لوقوع الحادث الفاجع، لعل أبرزها: تخلف وقِدم طائرة الرئيس والطائرات المرافقة له، سوء التقدير في توزيع أعضاء الوفد المرافق وحشر أهمهم في طائرة الرئيس، ومن بينهم وزير الخارجية حسين عبداللهيان، سوء اختيار خط مسار الرحلة بمرورها بمنطقة تقلبات جوية مفاجئة، سيما مع تخلف أجهزة الأرصاد الجوية المعتمدة.
كنت منذ زمن طويل أتحفظ على تنميط العقل العربي بنمط فكري أو سياسي ذي سمات متميزة محددة، وأرى أن العقل السياسي العربي ليس عقلاً جماعياً واحداً، بل عقول متعددة بتعدد ثقافات وانتماءات الجماعات العربية، ولما كانت الغالبية العظمى من مثقفينا وسياسيينا مطبوعة فكرياً بنمط محدد فعلاً، ولعل من أبرز سماته الإيمان التلقائي بنظرية المؤامرة في كل ما يُصيبنا من حوادث شر قاتلة أو غير قاتلة، حتى تملكتنا الهواجس والوساوس تجاه “عفاريت وجن المؤامرة” نهجسها تلاحقنا أينما يممنا وجوهنا مشارق الأرض ومغاربها، وأن أشباحها تلاحقنا، تسكن معنا حيثما نسكن، وترافقنا أينما حللنا الرحال.
وإذ تثير الإعجاب المواقف الرسمية الإقليمية والدولية التي بادرت بمواساة القيادة الإيرانية في فقيدها الراحل ومن كانوا برفقته، رغم اختلاف أغلب دولها سياسياً مع طهران، سيما وأن الحادث يأتي في ظل ظروف بالغة الدقة وشديدة التوتر إقليمياً ودولياً، وإذ هي بادرات محمودة تسهم بأدنى قدر ممكن لترطيب الأجواء المحتقنة، والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يُفسر بمظهر الشماتة يفاقم التوتر الذي لا يحمد عقباه، ولا شماتة في الموت، وهي بادرات أيضاً معروفة في تاريخ الأعراف الدبلوماسية تسهم في حفظ السلم العالمي.

*كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .