في مقدمة جميلة ضافية لملف خاص عن الأديب المصري الكبير توفيق الحكيم نُشر في مجلة "الطريق" البيروتية وصفه رئيس تحريرها السياسي والناقد الراحل محمد دكروب بأنه يُعد "... واحداً من كبار الكبار في مصر الثقافية، وواحداً أساسياً في الثالوث الكبير (طه حسين-توفيق العقاد-توفيق الحكيم) ظل له حضوره الفني، المجدد المتجدد الحاضر في العصر والخصائص في مختلف تياراته متفاعلاً معها والمضيف لها .. وظل له حضوره الفكري، القوي، سواء أنفقت مع هذا الفكر أو اختلفت معه يظل حضوره فيك قوياً، مثيراً للجدل والتفكير..".
وكان العالم والإعلامي المصري الدكتور حسين فوزي( 1900- 1988)، هو أول من لفت انتباه طه حسين للحكيم وقدّمه إليه،باعتباره ذا اهتمامات أدبية واعدة. وبعد أن بدأت العلاقة بين الأديبين تتوثق تدريجيًا، كتب العميد في مجلة" الرسالة" عام 1932 مادحاً روايته " أهل الكهف"،واصفاً إياها فتحاً أدبياً جديداً في تاريخ الثقافة والأدب المصري والعربي بما يثري كليهما ويعزز النهضة العربية. كما أبدى حسين أيضاً إعجابه بكتابيه " حماري قال لي" و "حمار الحكيم" واصفاً حماره بالحمار الفيلسوف. على أن الحكيم أُتهم على نطاق واسع في الصحافة المصرية في أواخر الخمسينيات بأنه سرق فكرة حماره الناطق من حمار الشاعر الأسباني الشهير خوان رامون خمينث "حماري وأنا" وهو الشاعر الحائز على نوبل للآداب 1956، وهو أيضاً من الشعراء الذين تأثر بهما الشاعر الأسباني فيديريكو غارسيا الذي أُستشهد عام 1936 خلال الحرب الأهلية الأسبانية على أيدي قوات تابعة لدكتاتور أسبانيا الراحل فرانكو خلال الحرب الأهلية الأسبانية.وكان الكاتب المسرحي رشاد رشدي، الذي بدا أنه كان مطلعاً جيداً مسبقاً على نص خمينيث، هو أكثر من تصدى في الصحافة لإثبات سرقة الحكيم للنص.وفي تقديري أن الملابسات والظروف السياسية السائدة في مصر حينذاك خدمت الحكيم في ترجيح كفة براءته من تهمة السرقة، فهو علاوة على كونه سرق فكرته بطريقة بارعة ذكية من حمار الشاعر الأسباني خمينيث، فإن المعركة الصحفية التي دارت حينذاك صادف توقيتها قبل فترة وجيزة من الإعلان عام 1958 عن عزم الزعيم العربي الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر تقليد الحكيم قلادة الجمهورية، ولما كان الحكيم يحتل مكانة خاصة في قلب عبد الناصر لتأثره بكتابه "عودة الروح"، فإنه رفض أيضاً استبعاد توفيق الحكيم،تحت أي ذريعة كانت، لأنه قد تأثر بروايته " عودة الروح" وهي من الكتب القليلة التي قرأها الضابط البكباشي عبد الناصر قبل الثورة وتأثر بها وقد فُهمت فنياً بأنها تنبأت بالثورة مقدماً .
ومع أن ذروة العلاقة بين الأديبين- طه حسين والحكيم - تجلت في عملهما الأدبي المشترك" القصر المسحور" إلا أن الحماس الذي أبداه الأول بدا أكبر من الحماس الذي أبداه الثاني .
ولن نفهم سر حماس حسين لهذا العمل الأدبي الفني المشترك إلا إذا تذكّرنا بأن "كتاب ألف ليلة وليلة" وهو من الأثار التراثية العربية الهامة التي ألهمته ودفعته للدخول مع الحكيم في عمل مشترك مستوحى من ذلك الأثر نفسه، و الذي أوعز لطالبته سهير القلماوي أن تختاره موضوعاً لرسالتها لنيل الدكتوراه.ولأن الحكيم لم تكن له حظوة في الاغتراف من منهل الثقافة اليونانية بالقدر الذي قُيّض للعميد،فإن الأخير لم يرحمه عندما وضع مسرحيته "الملك أوديب" على مشرحة التحليل النقدي، في محاضرة ألقاها في نادي الخريجين 1949 وأخذ يشرشحه "شرشحة" قاسية، ويأخذ عليه بأنه لم يقرأ تراث الأدب اليوناني بما فيه الكفاية، وأن دراسته لهذا التراث ما زالت سطحية، ومن هنا فإنه أفسد النص الفني لمسرحيته إفساداً شنيعاً كأشنع ما يكون الافساد.أما عن مسرحيته "شهرزاد" والتي أخذ يقرأ نصها الحكيم في بيت طه حسين أثناء زيارته له بصحبة إثنين من أصدقائه، فالغالب أنه تضايق من أسلوب العميد عند توقيفه ليشرح له ما يقصده من عبارات ومصطلحات استشكلت عليه، لكن الحكيم كان يناور دون أن يجيب بوضوح، وعندما صدرت الرواية بعدئذ كتب العميد مقالاً منتقداً المسرحية ناصحاً إياه أن يقرأ فلسفة أكثر ليستفيد ويكتب أفضل مما كتب. وحسب ما يروي حسين فإن الحكيم رد عليه بخطاب كله سباب وشتائم.
لكن الحكيم الذي كان لتأثر عبد الناصر وإعجابه بروايته "عودة الروح" سبباً رئيساً من أسباب وقوف عبد الناصر إلى جانبه وتكريمه غير مرة في عهده، كان من أبرز الأدباء والمثقفين الذين أعلنوا انقلابهم على الناصرية وتبرؤهم من أفكارها، ولم يكن كتابه "عودة الوعي" الذي كتبه في أوائل حكم الرئيس الأسبق أنور السادات إلا ترجمة لهذا الانقلاب، رغم أنه كان واحداً من عشرات كبار الكتّاب والمثقفين الذين وقعوا على بيان في شتاء 1973 يستنكرون فيه حالة "اللاحرب واللاسلم" التي تمر بها البلاد، وهو الاستنكار الذي بدا متناغما مع موجة احتجاجات الجامعات الطلابية التي بدأت منذ العام الذي سبقه (1972) لنفس السبب . ومثلما أدت مظاهرات طلبة الجامعات إلى سجن قادتهم بعدما هددهم الرئيس أنور السادات حرفياً بفرمهم في خطاب علني بُث في الإذاعة والتلفزيون( وكنت من متابعيه أثناء حياتي الدراسية) فقد أدى بيان المثقفين إلى فصل جُلهم من مؤسساتهم الصحفية، وإن لم تطل الأجراءات الحكيم نفسه.
وكعادة العرب- مثقفين وعوام الذين تتأثر عواطفهم تأثراً شديدا بعد رحيل أي عزيز من دنيانا اختلفوا معه بشدة أو قسوا عليهم، فتجدهم قد رقت ترق مشاعرهم في نعيهم له، للتخلص من تأنيب الضمير وتطهير الذنب تجاهه، مع أنهم ظلوا طوال حياته لا يعرفون شيئا اسمه قيم التسامح الإنساني معه، وهكذا دبّج الحكيم أروع نعي تجاه صديقه العميد،وكان في مقدمة مشييعي جنازته التي انطلقت من الجامعة، وهكذا وجدنا الأخير لم يبخل بتسطير نعياً حاراً يفيض مرة تجاه تلميذه الذي قسى عليه بشدة الناقد الكبير محمد مندور، ومرة ثانية تجاه عباس محمود العقاد!