في تاريخ الفكر السياسي العربي الحديث لم يعشق اليسار العربي، وعلى الأخص المصري، أديبين مفكرين كبيرين لا يلتقيا معهما في انتماء فكري مشترك كما عشق طه حسين ونجيب محفوظ، ولم يحب ويحترم هذان الأديبان تياراً سياسياً بعينه من بين كل التيارات السياسية، كما أحبا اليسار وتحاور كل منهما مع شخصياته وقواه حواراً موضوعياً.فقد خاض كلا الطرفين، طه حسين ونجيب محفوظ من جهة واليسار من جهة أُخرى، معارك فكرية ونقدية طاحنة، لكن سرعان ما يعود الطرفان لمصالحة بعضهما بعضاً ولا تستمر القطيعة إلا هنيهة من الزمن.ولقد رأينا حنين مثقفي اليسار إلى تراثهما الفكري والنقدي قد ازداد بعد رحيلهما، وكتبوا ومازالوا يكتبون الكثير من المقالات ويخصصون الملفات في أي مناسبات تتعلق بأي منهما في مجلاتهم وصحافتهم، على نحو ما بيّنا آنفاً في المقدمة التقريظية التي دبّجها الناقد والناشط اليساري اللبناني محمد دكروب في ملف خصصته مجلة "الطريق" اللبنانية التي يرأس تحريرها في أحد أعدادها عن توفيق الحكيم.
وفي تقديرنا فإن هذا العشق المتبادل يكمن في أن كلا الطرفين يلتقيا في الإيمان بضرورة العدالة الأجتماعية ويشعر بصدق الآخر في الإيمان بها، دون أن تتملكهما غايات عدائية أوكيدية لمجرد أن الآخر لا يلتقي معه في فكر واحد.وأنت لو فتشت في تراث كبار أدباء ونقّاد اليسار لوجدت أن نتاج هذين الأديبين المصريين يشغل حيزاً كبيراً من أعمالهم النقدية، وبالمثل في الأعمال السينمائية، وبخاصة أعمال نجيب محفوظ.
ونقدم هنا ثلاثة نماذج من كتّاب اليسار المصري ممن عبروا عن حُبهم الكبير للعميد، الأول هو الكاتب الصحفي الراحل صلاح عيسى ولعله من أكثر مثقفي اليسار المصري في تعبيره عن حبه الجم لطه حسين ،فبعد أكثر من ربع قرن على رحيله كتب مقالاً صحفياً تحت عنوان" أحبك حتى نهاية الحساب" عدّد فيه مناقبه السياسية والفكرية، مذكّراً بما قال فيه المستشرقون من إشادات، وما قالته أيضاً زوجته في مذكراتها "معك" بعد رحيله عن مقولته الشهيرة التي قالها لها خلال واحدة من المحن التي تعرّض لها، وكأنها واحدة من مقولات اليسار المأثورة:" نحن لا نحيا لكي نكون سعداء"، ولم تدرك هي معناها وأبعادها إلا بعد تأملات ذاتية في خلوات مناجاتها له بعد رحيله.
النموذج الثاني: يتمثل في المفكر الراحل محمود أمين العالم والذي كان طه حسين أحد من تناولهم مع رفيقه الدكتور عبد العظيم أنيس بالنقد في كتابهما الشهير" في الثقافة المصرية" فقد ظل مُحباً مشدوداً إلى فكر طه حسين، سواءً إبان حياته أو بعد مماته،وظلت العلاقة بين الطرفين قوامها الأحترام والحُب المتبادل بينهما ، ففي حين رد الأديب عباس محمود العقاد على ما تضمنه كتابهما من نقد له بعبارة تحريضية أشبه بالبوليسية: " لقد ضبطهما إنهما شيوعيان " بدلاً من مناقشتهما في أفكارهما، جاء رد حسين أكثر رزانة وموضوعيةً تحت عنوان"يوناني لا يقرأ"، وقد مر بنا ما يقصده بهذه العبارة.
النموذج الثالث والأخير: فيتمثل في القيادي والمؤرخ اليساري الراحل الدكتور رفعت السعيد، فقد كتب مشيداً بالمعارك التي خاضها طه حسين لفصل التعليم عن سلطة رجال الدين، وفصل الإسلام السياسي عن الدولة، ووجوب تخلي القادة التقليديين من ساسة ورجال دين عن قيادة مصر وتركها للعلماء الأكفاء من جميع التخصصات الفكرية والعلمية.
وإذا كان طه حسين قد أفحم محمود العالم كما يُستشف من مما كتبه عن زيارته وصديق له لمنزل الأول ذات مرة في الأربعينيات، معلقاً على ما دار من حوارات بينهما وبينه : "إنكم تتحدثون كثيراً عن الثورة، وتكتبون عن ضرورة الثورة، ولكنكم لا تعرفون ولا تتقنون العمل الثوري.. ما أحوجكم إلى دراسة التكتيك الثوري والإستراتيجية الثورية". ( محمود أمين العالم، الإنسان موقف).ولو سأل سائل أحداً يجهل قائل هذا الكلام، من قائله؟ لظن على الفور أن قائله واحد من أقطاب أو مشاهير اليسار في العالم. وكان طه حسين في لقائه التلفزيوني الشهير مع عشرة من كبار الأدباء والمثقفين في منزله لم ينس، رغم الأرهاق الشديد الذي كان يعاني منه خلال تلك المقابلة المطولة، أن يبدي رغبته في سماع مداخلة للعالم مشيداً بكتابه معارك فكرية . وهكذا أفحم أيضاً رفيق دربه أنيس عبد العظيم ذات مرة:" إنكم تتياسرون، وتظنوني على يمينكم، هل كتب أحد منكم شيئاً كالمعذبون في الأرض؟" .