العدد 5723
السبت 15 يونيو 2024
عبدالناصر بين صورتين
السبت 15 يونيو 2024

في الشهور الأولى من قيام ثورة يوليو 1952 وظهور ضباطها الأحرار، لم يكن أحد يعرف من هو بينهم قائدها، لكن الكاتب الصحافي الراحل محمد حسنين هيكل، بحسه الصحافي ومراقبته الفطينة الذكية، أدرك أن الضابط اليوزباشي جمال عبدالناصر هو قائدها، وفي العام نفسه اصطحب هيكل الذي كان رئيس تحرير “آخر ساعة” حينذاك، اصطحب مصور المجلة حسن دياب إلى مجلس الوزراء، ليلتقط صوراً عديدة لليوزباشي جمال الذي التفت بدوره إلى تركيز دياب عليه، فعجب بفطنته، وطلبه لاحقاً ليكون مصور رئاسة الجمهورية، وظل منذ عام الثورة حتى رحيل عبدالناصر مصور الرئيس في مختلف المناسبات الرسمية والعائلية والخاصة. وبعد عام من وفاة الرئيس أصدرت الأهرام ألبوماً جميلاً يجمع صور الرئيس التي صوّرها الفنان دياب، وابتعت نسختين منه، وأتذكر بهذه المناسبة أنني أهديت أحد أصدقائي المحرقيين النسخة الثانية في بداية التسعينيات، وطار فرحاً بهذه الهدية واعتبرها أجمل هدية في حياته يتلقاها من صديق، ومازال حيثما التقينا يكرر امتنانه لي عليها. الشاهد أن صاحبنا المصور دياب التقط صورتين لعبد الناصر في غاية التعبير عما نالته الهزيمة من صحته، الأولى قبيل ثلاثة أيام من حرب النكسة 1967، والثانية بُعيد الحرب مباشرة.

والحال ما من قائد وزعيم دولة في العالم نال العمل السياسي المضني من صحته كما نال من عبدالناصر، والحق أنه باستثناء صور عبدالناصر في السنوات الأولى للثورة حتى حرب 1956 والتي تظهره إلى حد ما في سني عمره الثلاثينية، فإن جل صوره اللاحقة حتى هزيمة 1967 متشابهة، تظهره بخلاف سنه الحقيقي، إذ يبدو عليه قد ولج الستينيات من عمره، أما صوره خلال الثلاث سنوات المتبقية من عمره بعد الهزيمة (1967 - 1970)، فقد بدت عليه علامات الشيخوخة المبكرة أقرب إلى الرجل السبعيني. لكن ماذا عن صورتيه قبل النكسة وبعدها بالمعنى المجازي للصورة، أي بمعنى شخصيته وأسلوبه في الحكم؟ هل ثمة فارق بينهما؟.


على عكس تخرصات أعدائه الزاعمة أن استقالته مسرحية مرتبة مقدماً، فإن تنحيه عن الحكم كان صادقا، بل إنه لم يخطر بباله البتة أنها ستجابه برفض جماهيري انفجر خلال آخر يومين من الحرب في 9 و10 يونيو 1967، حتى أنه أُصيب بصاعقة من الذهول لإصرار الشعب على بقائه في الحكم رغم مسؤوليته الفعلية عن أفدح كارثة عسكرية وسياسية تلحق بالعرب في تاريخهم الحديث، ومازالوا حتى يومنا يعانون من آثارها.

ومثلما أعلن في خطاب التنحي مساء يوم 8 يونيو مسؤوليته الكاملة عن الكارثة، فإنه كرر إعلانه هذه المسؤولية في خطابه في عيد الثورة في الشهر التالي، يوليو، كما كرره في خطابه في العام نفسه في نوفمبر 1967.

الأهم من ذلك فإنه حلل بدقة موضوعية صائبة في الخطابين العوامل السياسية والعسكرية التي أفضت إلى كارثة الهزيمة، ومن ذلك إشارته الضمنية إلى تراخيه عن مراكز القوى في الجيش، وتفشي الفساد والمحسوبية داخل المؤسسات الحكومية والقطاع العام، وداخل تنظيم الاتحاد الاشتراكي، والحراسات المفروضة على الممتلكات، وبما لحق أصحابها من مظالم، كما تطرق إلى شكاوى الناس من كثرة المعتقلين، والطريف أنه رد على ذلك بأنهم أضحوا قلة لا تتجاوز أعدادهم الآن الألف!

كما أكد الحاجة إلى توسيع الديمقراطية. ولم يكن تخفيفه الأحكام الصادرة بحق ضباط سلاح الطيران إلا لأنه يشعر بالفعل بأنهم أكباش لمحرقة يونيو 1967 التي يتحمل المسؤولية الرئيسية عنها.

لكن ما هي صورة عبدالناصر بعد هذه الاعترافات والنقد الذاتي الشجاع للأخطاء القاتلة العسكرية والسياسية التي أفضت إلى كارثة 1967؟
في الواقع لم يستطع الرئيس التخلص مما جُبلت عليه شخصيته من أساليب التفرد في الحكم منذ خروجه من أزمة مارس 1954 في الصراع على السلطة بينه وبين كبار رفاقه الضباط داخل مجلس قيادة الثورة منتصراً، فالانتهازيون والوصوليون ظلوا ممسكين بمفاصل الدولة والحزب الحاكم، وإن تغيرت الوجوه، والاعتقالات ظلت مستمرة تطال أشرف الناس وأكثرهم قرباً من فكر عبدالناصر، ومن هؤلاء الكاتب اليساري لطفي الخولي رئيس تحرير مجلة “الطليعة” الشهرية، وزوجته ليليان الخولي، وسكرتيرة هيكل، نوال المحلاوي، خريجة الجامعة الأميركية التي سبق أن أبدى الرئيس إعجابه بها في اتكيت تحضيرها القهوة أثناء زيارة له لمبنى الأهرام الجديد حيث زار أيضاً مكتب هيكل، وطلب منها أن تشرف على تدريب ابنته هدى عند التحاقها لاحقاً للعمل في الأهرام، كما طالت الاعتقالات الدكتور جمال العطيفي، والكاتب الصحافي صلاح عيسى، والشاعر الشعبي المعروف أحمد فؤاد نجم.

كاتب بحريني

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .