العدد 5643
الأربعاء 27 مارس 2024
banner
الإيمان والإنسان.. تأملات رمضانية
الأربعاء 27 مارس 2024

نستمر في هذه القراءات الروحانية خلال شهر رمضان، شهر الصوم والعمل والإحسان.. هل قلنا إنه شهر العمل أيضا؟ نعم، غير أن واقع الحال ربما ينحو كثيرا إلى غير ذلك، إذ يُتخذ من الصوم ذريعة للكسل والتواني، والعمل صنو للعلم، ولا علم بدون عمل، والإيمان يتضمن العمل ولا شك، وعليه تبقى هناك جدلية فلسفية قائمة، أضلاعها ثلاثة "العمل والعلم والإيمان"، فهل باتت هذه المنظومة تستقيم في حاضرات أيامنا؟
أخشى أن تكون الحقيقة متمثلة في وجود شرخ واضح وفاضح بين حقيقة ما نؤمن به، وما نفعله على أرض الواقع بعيدا عن روح الإيمان. حتما يبقى رمضان شهر خلوة وتأمل وصفاء نفس، وعليه فإننا نحاول أن نطرح على أنفسنا علامة استفهام حول العلاقة بين الإيمان والعلم في عالمنا العربي المعاصر. من بين الأسئلة الواجب إثارتها في تأملنا في هذا الشهر الفضيل، ما يتعلق بمجال تقدم العلوم والتقنية، وإلى أي مدى يخدم هذا التقدم الإنسان، سيما أن الإشكالية الكبرى التي يواجهها النوع البشري في القرن الحادي والعشرين، هي أنه ينزع نحو تأليه نفسه، ويرى أن العلم قادر على حل جميع مشكلاته الحياتية، وليس بالضرورة العودة إلى المعطيات الروحية والدينية على اختلاف أنواعها وتنوع مشاربها. في أيامنا الحاضرة نجد عددا غير قليل من الناس ممن أولوا تقدم العلوم والتقنية ثقة متطرفة جنحت بهم إلى عبادة الأشياء الزمنية فصاروا عبيدا لها أكثر منهم أسيادا. إن تطور العلوم يجب أن يساهم في التقرب من الله، كما أن الإنسان بحاجة إلى هذا التطور ليتلاقى البشر مع بعضهم البعض من خلال الإفادة من هذه العلوم. قيمة الإنسان هي في ذاته أكثر مما هي في مقتناه، وكذا القول عن كل ما يصنعه، لتسود العدالة أكثر مما هي عليه، ويزداد انتشار الاخوة، ويعم نظام أكثر إنسانية في العلاقات الاجتماعية، فقيمة كل ذلك تفوق قيمة التقدم التقني، إذ إن التقدم إذا استطاع أن يوفر الأساس المادي للرقي الإنساني، فإنه يعجز بذاته تماما عن تحقيق هذا الرقي.
وفي الواقع إن تقدم العلوم والتقنية، بإمكانه أن يساهم في بحبوحة الإنسان المادية، غير أن الشأن الروحي هو من مسؤولية المؤسسات الدينية والاجتماعية والإعلامية، وعليه فإن الواجب يدعو إلى توازن حقيقي بين التقدم العلمي والتقدم الروحي، وإلا فإن الخلل سيفاقم الصراع الكبير الذي سيجعل الإنسانية في رفض متصاعد لمعطيات الدين، ولمحورية الله تعالى في كل شيء.
ويبقى القول قبل الانصراف إن كل ما يتكون منه النظام الزمني، أعني خيرات الحياة والعائلة والثقافة والاقتصاد، والحرف والمهن، ومؤسسات الجماعة السياسية، والعلاقات الدولية وغيرها، مما يشبهها وتطورها وتقدمها، كل هذا يجب أن يسخر لخدمة الإنسان حتى لا يصبح ثمنه "زوجي حذاء" كما اشتكى عاموص ابن أموص نبي بني إسرائيل، الذي رفض الظلم الواقع على الإنسان في عهده، وهذا لن يتأتى بالجهود الفردية، إنما يحتاج إلى تكاتف وتعاضد إنساني خلاق، سيما في زمان قنوات الاتصال بين البشر، ما يكشف للجميع ولكل واحد بطريقة أكثر اتساعا، ثروات الإنسانية الفكرية والروحية والمادية.
هكذا يفسح في المجال رويدا رويدا، لنوع من الحضارة أكثر شمولا، يدفع بوحدة الجنس البشري إلى الأمام، ويعبر عنها بقدر ما يحترم ميزات كل ثقافة على حدة، وهكذا يؤدي ازدياد التبادل الإنساني الثقافي لحوار حقيقي ومثمر بين مختلف الأمم والشعوب، لا يهدم حكمة الأجداد، ولا يعرض للخطر العبقرية التي يمتاز بها كل شعب، وتتصف بها كل أمة دون تناحر أو تصادم، بل تعايش تحت راية واحدة عنوانها "أنت أخي وأنا أحبك".
 
كاتب مصري خبير في الشؤون الدولية

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .