العدد 5460
الثلاثاء 26 سبتمبر 2023
ذبابة سقراط تقوده إلى الإعدام
الثلاثاء 26 سبتمبر 2023

كان سقراط (٤٦٩ - ٣٩٩ ق.م) نموذجاً للفيلسوف الزاهد في كل متع الحياة، يرتدي ثوباً بسيطا طوال العام، متحررا من داء التملك الذي أصاب الجنس البشري على مر التاريخ، وطبقا لما يذكره المؤرخ الأميركى ويل ديورانت في موسوعته قصة الحضارة أن "سقراط عندما شاهد ذات مرة كثرة البضائع المعروضة للبيع، قال: ما أكثر الأشياء التي لا أحتاجها". وسقراط الذي يعد أشهر الفلاسفة كان رجلا عاديا حتى بلغ الثلاثين من عمره ثم أخذ يشعر أن عليه رسالة يؤديها وأن يهدي الناس إلى استعمال العقل والتمسك بالأخلاق، فصار يتحدث في التجمعات والأسواق عن الفضيلة والعدل حتى ذاعت شهرته وأصبح أكثر الناس تأثيرا في أثينا، وقالت عنه آلهة معبد دلفي: سقراط أحكم الناس.


لكن طريق الحكمة والفلسفة ليس سهلا ولا ممهدا على الإطلاق، وقد دفع سقراط حياته ثمنا لهذه الفلسفة وتلك الحكمة، فهو كان يدعو الناس إلى توحيد الآلهة في إله واحد، رافعا شعاره الأثير اعرف نفسك.. فعندما يعرف الإنسان نفسه سيعرف الإله بالتأكيد، لكن الغريب أن فكرة توحيد الآلهة لم تكن فكرة دينية فقط، إنما كانت ذات أثر اقتصادي حيث كسدت التجارة، ما جعل التجار يتحالفون ضد سقراط، والتهمة جاهزة أنه ينكر الآلهة ويفسد شباب أثينا. يذكر ويل ديورانت أن سقراط كان يؤمن بإله واحد، وكانت مدينته أثينا تؤمن بتعدد الآلهة، وكانت أشهر أسواق أثينا سوق تقام ليشتري منها الناس "الماشية" ويقدمونها قربانا إلى الآلهة، وكان معنى توحيد الآلهة أن تقل نسبة الشراء ما أدى إلى حالة كساد في السوق، ولذلك كان كبار التجار يحركون التهمة من وراء ستار.


وتم اقتياد سقراط إلى المحكمة في السبعين من عمره وهناك راح يدافع عن نفسه مخاطبا قضاته: أحب أن تعرفوا أنكم إذا قتلتم رجلا مثلي أسأتم إلى أنفسكم أكثر مما تسيئون إلي، لأنكم إن قتلتمونى لن يسهل عليكم أن تجدوا رجلا آخر مثلي، فأنا أشبه "ذبابة" بعثها الله إلى الدولة، والدولة شبيهة بحصان عظيم لكنه بطيء الحركة لضخامة جسمه، وهو بحاجة إلى من يبث فيه الحياة، وأنا هذه "الذبابة" التي تحرك الحصان ليزيد سرعته. وإذا كنتم لن تجدوا رجلا مثلي فأنا أنصحكم ألا تقتلونى وأن تبقوا على حياتي، وأنني لن أتوقف عن الفلسفة مادام في صدري نفس يتردد. وتحديا لصلابته رفضت المحكمة دفاعه الحكيم وحكمت عليه بالإعدام وأن يتجرع شرب السم.


تلقى سقراط الحكم بهدوء وتحلى بكبرياء العظماء، وحين دبر له تلاميذه خطة للهرب رفض، وبعد أيام جاء السجان يحمل كأس السم وقدمه إلى سقراط فشربه، وعندما صرخ أحد تلاميذه قال سقراط بهدوء ما هذا الصراخ.. لقد أبعدت النساء، يجب أن تجعلوني أموت في سلام.. اهدأوا واصبروا.. ثم مشى برهة واستلقى على السرير، وكانت آخر كلمة قالها يا أقريطوم نحن مدينون لإله الشفاء بديك.. فهل قدمته؟ لا تنسى ذلك.

كاتب مصري

صحيفة البلاد

2025 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية