صدق من قال.. "الفنانون العظماء لا يموتون وتبقى أسماؤهم مثل القناديل في الليل، فهم موطن القوة في هذا العالم وثروة المجتمعات الحقيقية".
بينما كنت أشاهد فيلما ألمانيا مترجما، استوقفتني لقطة بخطواتها الرقيقة المعبرة، الأم دخلت على الابن غرفته وشاهدته يلصق صورة شخص ما على الجدار، فسألته عن هذا الشخص الذي سيكون معه شريكا في الغرفة ليلا ونهارا، فأجابها.. إنه بريخت يا أمي.. إنه حبيبنا ومعلمنا. لم تكن قصة الفيلم عن الفنون ولا المسرح، بل كان يتناول موضوعات اجتماعية كثيرة، لكن ما كان يريده كاتب السيناريو والمخرج في هذه اللقطة كان واضحا.
فبرخت بالنسبة لألمانيا مثل راسين بالنسبة لفرنسا، وشكسبير بالنسبة لإنجلترا، وتولستوي وديستوفيسكي بالنسبة لروسيا، وكما هو محتم على السائح المثقف أن يزور اللوفر في باريس والأرميتاج في لينينغراد، لابد له في برلين من أن يبحث ويشاهد المهد الحقيقي لمسرح برخت، والمدرسة التي أشعت منهجه على المسارح الأخرى في العالم.
برخت كان بداية الرفض للنزعات البرجوازية والتقليدية التي سادت المسرح في عصره، والنقض للرومانسيات العاطفية الزائفة عند غلاة التعبيريين، وقد التقت دوافعه الجريئة في البحث مع محاولات كثيرين في بلدان أخرى، مثل أنتون آرتو في فرنسا، رغم أن ذاك الاتجاه المعاكس لبرخت، ومع نتائج آخرين مثل مايرهولد في روسيا، وكان فاتحة التجريب في المسرح المعاصر من أجل خدمة الجماهير وشدها نحو عالم الثقافة والوعي والتسلية، وتوعيتها. البدء كان من أرض الواقع، من الكشف عن الخطأ، وفضح المستغلين ووسائلهم. المسرح هو العالم، والصراع في أساسه بين طبقتين وبين سياستين، برخت كان الضوء الساطع الذي يعرف كيف يتوجه إلى الحقيقة المختبئة ويكشفها لكل الناس، واستطاع أن لا يكون كاتبا ذا طابع جديد فحسب، إنما أستاذا ومخرجا، واستطاع أيضا النفاذ إلى تغيرات أساسية في التمثيل والموسيقى والديكور والسينوغرافيا. هكذا هي المجتمعات التي تقدس مبدعيها وتخلدهم في الذاكرة.