العدد 4576
الأحد 25 أبريل 2021
banner
قهوة الصباح سيد ضياء الموسوي
سيد ضياء الموسوي
التفكير في زمن التكفير
الأحد 25 أبريل 2021

يجب ألا نمثل دور القاضي والمحكمة والمطرقة في الحكم على الأشياء، أو على البشر، ولا نلقي الزيت الحارق على إنسانيتهم، ولنبحث عن مواطن الجمال فيهم. فجان جاك روسو هو الذي مارس تفكيكه، ومواجهته للذين أنكروا وجود الله، وكأنه ينطق بدفاع الفارابي، وابن رشد، وابن سينا. فكان روسو يركز على أن “لا حضارة مكتملة بلا قيم وايمان بالخالق”، ودافع في “العقد الاجتماعي” عن قيم الديمقراطية والحقوق وهناك من سبقه في ذلك رغم أن أفكارا مماثلة لنظرية العقد الاجتماعي ظهرت قديما في الفلسفة الإغريقية والرواقية والقانون الروماني والكنسي.

ولا ننسى دور فولتير في إطلاقه لرصاص الكلمات ضد خرافات الكنيسة، وضد التقاتل البشع بين البروتستانت والكاثوليك، كانوا يذبحون بعضهم البعض بسكين الفتاوى الخارجة من جبب القساوسة.

ودعا إلى فتح نوافذ الكنيسة لأكسجين التنوير، وتقديس العقل كما فعل ديكارت في النقد. أما فيكتور هوغو صاحب رواية “البؤساء” ورواية “احدب نوتردام” فقد أنسن الوجود بقصة الأحدب، كيف للجمال الإنساني يخرج الأحدب القبيح من العزلة إلى جمال الوجود في إخراج الفتاة التي أحبته مكامن الجمال التي في داخله. هوغو من أوائل الذين أنسنوا الأدب دفاعا عن العدالة والجمال والإنسانية. ولا نغفل الأديب الإنجليزي تشارلز ديكنز في رائعته رواية (Oliver Twist) عن طفل يتيم، تم استغلاله من قبل المجمتع، وكأنه يحاكي نفسه، حيث عاش طفلا فقيرا دون خبز. أقول: ابحثوا عن الإنسان في الحضارات بعيدا عن الهوية أو العرق أو اللون أو الديانة أو المذهب. النظرية الإنسانية التي أدعو لها، موجودة في مناجم الأديان والآداب العالمية، وفي مواقف عظماء وفلاسفة رهنوا حياتهم للإنسانية كما فعل الفيلسوف الأندلسي ابن رشد الذي تأثر بالفلسفة اليونانية في تقديس العقل، وهو الذي تأثر بفكر ارسطو. كذلك الأمر للفارابي وابن سينا وغيرهما.

فابن رشد عرف بنظرياته التي تركز التوحيد ضد الملحدين، ودافع عن الأنبياء، والإسلام، وعن ضرورة فهم الدين بالعقل، لا بالخرافات، ولا بالمخدرات الطائفية التي يوزعها بعض المنتسبين للدين في عصره، ورغم ذلك قمعته فتاوى “التيك اوى” الفاستفودية في ذلك الزمان. وللأسف، كفروه، وقد شهد ابن رشد كتبه تحرق أمام عينه بتهمة الزندقة، فقط لأنه دعا للتفكير في زمن التكفير، تماما كما نظر بن المقفع للسكاكين كيف تقطع أجزاء من جسده وتشوى أمام عينيه وهو يصرخ من الألم. سلاح التكفير، للآن يستخدم من قبل من لا يمتلكون حجة أو برهانا كما فعلوا مع جاليليو الذي حوكم لإيمانه بدوران الأرض. يختلف ابن رشد عن ابن الراوندي والطبيب أبي بكر الرازي في إيمانه بالأنبياء والشريعة الإسلامية، ورغم ذلك اتهم بالزندقة.

لم يسكت، بل رد عبر كتابه (تهافت التهافت) على “تهافت الفلسفة” لأبي حامد الغزالي. وكان يدعو إلى تفعيل دور العقل.

إن رجل الدين لابد أن يكون ملما بعلوم شتى ليفهم النص، فهولاء كانوا علماء في الفقة والفلسفة والطب والكيمياء والرياضيات والفلك وعلم الكلام بخلاف اليوم حيث بعض رجال الدين يفتي في كل شي، وليس عنده علم فيه، يفتي في علم النفس والسوسيولوجيا (الاجتماع) والسياسة والطب والاقتصاد وهو لم يدرس ذلك.

هذا خطأ منهجي كارثي. فحتى لو حسنت النوايا لمفسري القرآن الكريم، يبقى هناك قصور إن لم يمتلكوا ثقافة متنوعة في فهم البعد الجمالي والإنساني في القرآن الكريم، وسيرة الأنبياء. سيد قطب فسر القرآن (في ظلال القرآن) بطريقة حاكمية الحزب السياسي الديني على الدولة.

بن لادن يفسر القرآن بلغة التفجير. مقتدى الصدر يفسر القرآن بلغة إلغاء الدولة وصناعة المليشيات لكسر هيبة الدولة وهكذا. فلا تتعجب من فتوى تكفر، وتدعو لثقافة الذبح بمجرد الاختلاف في الرأي كما هي داعش. تقول الآية الكريمة (ولقد كرمنا بني آدم). ولم تقل كرمنا فقط المسلم، بل المسلم والمسيحي واليهودي والبوذي وكل إنسان له الكرامة الإنسانية كما يقول الإمام علي (ع): (فهما صنفان: إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق)، فيكفي أن تلتقي مع الإنسان في الخلقة أو الإنسانية لتحترمه. الأديب همنجوى حارب لأجل الإنسان في الحرب العالمية الأولى والثانية، ووقف ضد الحرب الأهلية في إسبانيا، وأصيب في بعض الحروب دفاعا عن كرامة الإنسان. دور المثقف أن ينحاز للإنسانية. هل يمكن أن نلغي الأديب الفرنسي (جان جنيه) لأنه غير مسلم، وقد دافع عن فلسطين كما هو موقف المفكر الكبير Bertrand Russell. فبعد زيارته لمخيمي صبرا وشاتيلا، كتب نصا: (أربع ساعات في شاتيلا).

وبعدها ألف كتابه (أسير عاشق). وهو القائل “لم أكن أشاهد دمار بيروت، كنت أشاهد موت الإنسان”. فهل نلغي إنسانيته، وأنه غير “طاهر معنويا أو حسيا” حسب الاختلاف الفقهي ضيق الأفق، لأنه غير مسلم؟ فكيف سينظر لنا لو علم بمثل هذه الفتاوى الخرافية؟

يجب أن ننقب عن الجوانب المضيئة في البشر، ونخرج من السجن الايديولوجي إلى حيث الفضاء الإنساني، وألا ننظر للعالم من “الثقب الايديولوجي” كما هو تعبير الشاعر ادونيس.

لقد هالني حجم السباب والشتم الذي تعرض له الممثل ناصر القصبي من قبل خطيب عبر المنبر هذه الأيام. كلنا شبعنا عضا ورفسا، ولكنا سنظل نمارس دور تثبيت حب الإنسان لأجل الإنسان مهما كان دينه أو عرقه أو لونه أو هويته.

كذلك الحال للمفكر الفرنسي دريدا وغيرهم. يجب أن نخرج من إطار تكفير البشر لمجرد الاختلاف فكريا، وعلينا أن ننقب عن جواهرهم ومناقبهم.

الإمام الصادق (ع) كان يقيم نقاشات علمية مع الفلاسفة في عصره دون أن يلغيهم. حتى في السياسة يجب ألا نخون البشر لمجرد الاختلاف.

فالسياسة فن الممكن، ومنطقة رمادية لا تؤهلنا لأن نلغي أمة أو فردا لرأي سياسي. أتذكر عندما كنت في إيران، وكانت في فترة ترشح خاتمي، ناله ما ناله من تسفيه، لأنه يقرأ الفلسفة، ويحمل عقلا نقديا.

ذات يوم ذهبت لشراء كتاب للمفكر علي شريعتي في قم، قال لي صاحب المكتبة: لماذا تشتري كتب هذا المنحرف فكريا؟ قلت له: هل قرأت لشريعتي؟ فقال: لا، يكفي ما سمعته عنه.

لقد أعطى نفسه صلاحية إلغاء مفكر فقط لأن عقله محشو بأفكار معلبة تم حشوها بعقله من سوبرماركت البائعين. وذكرني بحادثة قاتل فودة. عندما حقق المحقق مع قاتل المفكر فرج فوده، وسأله: لماذا قتلته؟ قال: لأنه كافر. قال له هل قرأت له شيئا؟ قال: أنا لا أقرا ولا أكتب لكن الخطيب قال عنه إنه كافر. يجب أن نزيل من عقولنا أننا نحن المسلمين فقط الذين نمتلئ بالإنسانية، وأن الدنيا لنا والآخرة لنا والجنة فقط لنا، ونحن فقط الذين نحب الله وبقية العالم مجرد نفايات بشرية. أما بالنسبة لدوستويفيسكي فهو يمتلك حفريات في النفس البشرية، ويرفع له القبعة في رواياته، خصوصا “الجريمة والعقاب”، ودافع عن الفقراء في رواية “الفقراء”. وهو القائل عن جشع الإنسان: “إن قطعة الخبز تبدو لنا دائما أكبر مما هي في الواقع حين نراها في يد غيرنا”.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .