العدد 4574
الجمعة 23 أبريل 2021
banner
الصيام بين الروح والجسد
الجمعة 23 أبريل 2021

ها نحن نعيش أيام شهر رمضان الكريم لهذا العام، والذي هو شهر الامتناع عن الطعام والشراب وغيرهما من المفطرات التي تُخرِج الإنسان من السمو الروحي والتجلّي، حيث يكون ذلك الامتناع بين بزوغ الفجر إلى غروب الشمس، وشهر رمضان هو كريم لما فيه من عطايا روحيّة معنيّة بالتأمل والتبصّر، ذلك التبصّر الذي ينبثق من روح كل إنسان ليكون له مردود روحي وتوازن نفسي، شريطة عدم انشغالنا بما يفسد ذلك المردود بحاجات ورغبات الجسد الماديّة، ورغم أننا قد نشأنا على ترديد ذلك التعريف الروحي للصيام في عقولنا وتكراره في أحاديثنا، إلاّ أننا مازلنا نعيش ونطبّق الصيام الجسدي دون الصيام الروحي.. ذلك دون أن ندرك!

فالصيام الجسدي هو الامتناع عن المفطرات المرتبطة بالحاجة واللذة الحسيّة التي اعتدنا عليها طيلة 11 شهرا من السنة وبطريقة "مفرطة" غير متوازنة، مما يؤدّي إلى حالة ضغط نفسي عصبي عندما نمتنع عن تلك المفطرات في شهر الصيام الوحيد في السنة! وكيف لا ونحن نعيش انفعالات وتعبا جسديا وخمولا أثناء ساعات الصيام، حيث نوحي لأنفسنا أنها حالة طبيعيّة بحجة امتناعنا عن المأكل والمشرب وكأن الإنسان معني بآلة الجسد فقط! وفي نفس الوقت نصبر أنفسنا بمكافأة الإفطار من مائدة عامرة بما لذ وطاب، وكأنه شهر الظهور والتنافس في فن الطهي وصنع المقبّلات والحلويّات وما إلى ذلك من قوائم الطعام الموقوتة بالدهون والسعرات! وكأننا نعيش ألم الجوع مقابل التطلّع إلى شهوة الطعام ولذته، لنعبّئ بطوننا عندما يحين موعد الإفطار، ونستعد بعد ذلك ليوم آخر لنكرر دورة الجوع والشبع من جديد! كل ذلك دون أن ندرك!

لكن مهلا... أليس شهر رمضان شهرا روحانيا، شهر العبادة والتجلّي؟ والتجّلي هو بحد ذاته عمق الإدراك، بل هو قمة الوعي الإنساني، فأغلبنا يرتبط صيامه بممارسة الشعائر الدينية من الصلاة وقراءة القرآن الكريم والتسبيح والتهليل، حيث تهدأ النفس بممارسة تلك الشعائر المقدّسة، ولكن ما يجعل تلك الشعائر ترتبط بشكل وثيق بالروحانية هو التجلي السامي المتوازن الذي يقربنا بل ويربطنا بالخالق عزّ وجل، أي إدراكنا لأرواحنا أولا، أي هوياتنا التي تتمثّل بالرسائل التي خلقنا لأجل تفعيلها على الأرض.

تلك الرسالة الكامنة التي دخلت قلب كل منا خلال تكويننا الجنيني في أرحام أمهاتنا، ومنذ ذلك الوقت، كمنت تلك الرسالة في قلوبنا والتي جاءت على هيئة الروح التي تحقق بها نبض حياتنا الجنينيّة، فأصبحت ضمنيّة وضامنة لتفعيل حياتنا بعد اكتمال تكويننا الجسدي وخروجنا إلى عالم تحقيق تلك الرسالة بسعينا المستمر بين التحدي والإنجاز، الذي بهما يكون توازن ذواتنا، وبهما يكون التوازن في نظرتنا للأشخاص المحيطين بنا واستقبالنا ما يدور حولنا من أحداث وأخبار، بل وتعاطينا وقراراتنا في شؤون حياتنا، "فهناك دائما تحدّ في كل دعم، ودعم في كل تحدّ"، ولكن علينا أن نفتح قلوبنا ونسمح لعقولنا لإدراك ذلك، حتى نحيى في مشاعر الحياة السامية المتمثّلة بالحب غير المشروط والتسامح والامتنان.

"إننا حين نمارس رسالتنا في الحياة أي قيمتنا العليا نكون قد فعّلنا قيمة حياتنا"، وبهذا نحيى في التجلّي والتأمّل من خلال رسائل تعميرنا التي هي العقد المبرم مع الخالق عز وجل لتعمير الأرض، لأننا بتلك الممارسة نصبح في موجات الدماغ المسمّاة بألفا والتي هي موجات التأمل والخيال المبتكر، بل موجات الشفاء من الأمراض المزمنة بعودة توازن عمل أعضاء الجسم والبيئة المحيطة بالخلايا، وبهذا نكون في امتلاء روحي عميق وتفكّر وتبصّر.. هنا يكون الصيام روحيا حيث يقترن بممارسة الشعائر الدينيّة فتهدأ النفس وتستكين، وهنا فقط يتحقق الاعتدال في صيام الجسد ورغبته في الطعام والشراب، دعوة إلى التأمل في شهر رمضان الكريم، وتقبّل الله صيامكم وقيامكم.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .