عندما تحدثنا في مقال سابق عن البحث العلمي، كنت أود تجميع مرئيات جادة، وتوثيق وجهة نظر محايدة بشأن أهمية البحث العلمي في كشف أغوار الكون الرهيب، وربط ما يحدث لنا بضيق اليد وقلة الحيلة وضعف القدرة على مواجهة متغيرات الأرض، واحتياجات الإنسان، وإيجاد حلول قاطعة للكثير من المعضلات التي تتربص بهذا العالم، ليس ابتداءً بكورونا وتحوراتها، وليس انطلاقًا من تداعياتها وتشرذماتها، إنما بالعديد من الأمراض الفتاكة التي لم يتم اكتشاف علاج حاسم لها، للأورام الخبيثة لا قدر الله وكيف أنها تقضي على الملايين من البشر كل سنة، للأمراض والأوبئة الطارئة وكيف أن أحدًا حتى الآن لم يكتشف بؤر تخلقها، وأوطان تألقها، وشراسة تماديها، وكيف أن الإنسان في كل زمان وكل مكان مازال يلف على ذواته وعلى حوائطه الأربعة ملايين اللفات كي يفسر سببًا وجيهًا لزوال الديمومة من فوق الأرض.
الخلود بمفهومه المادي وليس بقدرته على البقاء بعد الزوال، أبسط مشكلات الكون وأهمها التوازن البيئي، والتلوث ومكوناته، ووسائل التخلص من القمامة وإعادة تصنيفها وتصنيعها وإخراجها في أبهى صورة وأجمل مرتجى، كل ذلك مازال يحتاج منا كأكاديميين إلى عناية فائقة، إلى بحث علمي لا يحط جام جهوده على مجرد حبر فوق ورق، أو بين سلالات لغوية داخل حاسوب، أو ضمن تجارب ليست معملية لنزكي أنفسنا وندعي بأننا أنجزنا بحثًا علميًا فوق العادة، أو أننا أطحنا بنظريات عفا عليها الزمن وأقمنا الصروح ببحوث أخرى أكثر جدارة وتفوقًا.
البحث العلمي هو الذي يتحرك إلى شارع التجارب البشري، هو الذي يسير في الطريق ذاته، ويمضي نحو الهدف ذاته، يزاحم الناس بسرعة فائقة على المضي قدمًا نحو مجتمع الكفاية والعدل، الكفاية في الإنتاج والعدل في التوزيع، في إنجاب الثروات وليس انتظارها حتى تخرج في صدفة ربانية بحتة محملة بالمعادن والنيازك والغازات الطبيعية والسلالات النفطية، والإبداعات البوهيمية، إنجاب الثروات وتخليقها من العدم، البحث عنها في المطمور من بقاع ووديان وصحار وجبال شاهقة، في الدخول إلى معامل التجارب ومعنا عينات لطحالب وفطريات وفيروسات لا تُرى بالعين المجردة، فإذا بنا نكتشف بأن آثارها ودمارها يمكن رؤيته بأبسط من عين مجردة، جرار فخارية عليها بصمات لشعوب جاءت وشعوب رحلت، وشعوب واصلت الحياة ونحن مازلنا على هذه الأرض لا نفهم في فك شفرة الخلق، ومازلنا نعتمد على داروين الذي أكد أن الإنسان لا يندرج من فصيلة القرود، وأن الحلقة المفقودة بين الإنسان والقرد مازالت قيد البحث والتجربة، وأن الفراغ البحثي المهيمن على أسطورة الإنسان الأول مازال يُحلق عليها فكر غيبي معتبر، وبراءات اختراع عينية لا يُشار إليها بالبنان.
البحث العلمي ظالمًا أو مظلومًا، ظالمًا لنفسه لأنه لم يذهب إلى خارج الحدود المرسومة له، ومظلومًا لأن الإطار الإداري “المنقوع” فيه مازال بيروقراطيًا حتى النخاع، ومازالت القدرة على تصويب المسار مرتهنة بميزانية أقل من محدودة، وبرؤى تحتاج لمزيد من الشجاعة والإقدام، خاصةً أننا كأمة إنسانية محشورون في الفك المفترس لجائحة لم تفرق بين غني وفقير، بين عالم وأجير، بين عظيم ومحدود الإطلالة والعطاء، الكل سواسية في فلك الكورونا الرهيب، نصاب بالفيروس ونحاول أن نتفاداه، لكننا لا نعرف من أين جاء ولماذا، وما هو العلاج الشافي العافي من كل مكروه، نستسلم لأنواع متعددة من اللقاحات لكننا مازلنا نسمع عن إصابات لمتلقحين، ووفيات لمحترزين، ومضاعفات لآخرين، لكن ماذا نقول؟ إنه الفقر في البحث العلمي، في مزيد من الفرز والتدقيق والتفكير العميق، والنقص كل النقص ليس في رؤى متقاعدة أو تقليدية، إنما في إمكانات مهيضة الجناح بأي مقياس من المقاييس.