المطالبة بإعادة النظر في مفهوم الثقافة ومحاولة تحديد موقعها في حياة الشعب البحريني
عقيل: مشكلة الثقافة أنها لم تكن أبدا ضمن أولويات النمو الاقتصادي والاجتماعي
للأسف الشديد الصفحات الثقافية أصبحت شيئا زائدا عن الحاجة
لا يزال ينظر إلى الثقافة على أنها أنشطة ترفيهية وكرنفالية وفنية
تحول الصراع الفكري إلى ساحة حرب شعواء طالت حتى الأخلاق والشرف
الظروف التي يعيشها الكتاب الشباب اليوم أفضل بكثير من تلك التي جربناها
في كل الآداب الإنسانية شخصيات مؤسسة تمثل جيلها وتصور عبقرية عصرها، فتغدو بإبداعها مدرسة أدبية ومفخرة وطنية، تعلو في وزنها وتقديرها، والأديب البحريني عبدالقادر عقيل أحد أولئك الكبار الذين ارتقوا بالرواية والقصة والترجمة إلى مركز رفيع، واستطاع أن يؤثر في مجتمعه بتجربته الرائدة التي يمكن أن نطلق عليها بأنها من أصدق وأعمق تمثيلا لتجربة الإنسان والرؤيا التي تبشر بحياة جديدة.
عبدالقادر عقيل عمل وخلق وتوهج وعاطفة متدفقة، والكتابة عنده متجاوزة للحدود، شيمته السبق والتنبؤ، كفاه نبلا وأصالة أنه الدواء الواقي من الجمود والرتابة. إنه باختصار صدمة منعشة في عالم الأدب.
وفيما يلي “نص حوار” البلاد مع عبدالقادرعقيل.
هل تعتقد أن القصة القصيرة لم تعد قادرة على مواجهة الفنون الأخرى، مع أنها بطبيعة تكوينها تقوم بسهولة بدور خطير في التعبير عن طموح الفرد وصراعه وضياعه لاسيما في هذا العصر؟
القصة القصيرة فن معقد وصعب جدا، فهي تختزن الكثير وتوحي بالكثير. فهي فن اللحظة التي تستطيع أن تكشف عن تعقيدات النفس البشرية وهشاشتها، وتشرذم الذات البشرية، وتتجه نحو الداخل للوصول إلى القاع. وهذه ليست بالمهمة السهلة على الإطلاق. أما الرواية، فهي عمل أدبي مركب، أو (روح التعقيد) كما يعرفها ميلان كونديرا. فكل رواية تقول للقارئ إن الأشياء أكثر تعقيدا مما تظن. الروائي في نظري شخص مثقف من الدرجة الأولى، وصاحب خبرة هائلة في الحياة،
والرواية هي الحياة بشكلها الواسع، والروائي هو الذي يعرف ما هي الحياة. أما القصة القصيرة، فإنها باقية وقادرة على الصمود حتى الآن.
ما الذي ينقص أدبنا البحريني الحديث ليصبح أدبا عالميا؟
كان الشاعر الألماني غوته هو أول من استخدم مصطلح “الأدب العالمي”، وكان يعنى بهذا المصطلح الأدب ولاسيما الشعر الذي يرتقي إلى مستوى الإنسانية في موضوعاته وفنه، ولا يتخلى عن بعده القومي أو الوطني أو المحلي، وكان غوته يرى بأن آداب الأمم سوف تلتقي ذات يوم في هذا الأدب العالمي، ولكن من غير أن تتخلى عن خصائصها المحلية ومن غير أن تذوب في وحدة الأدب.
لابد من الحذر من النظرة التي ترى في الغرب الرأسمالي مقرا مميزا للأدب العالمي، فالموقف تجاه شعوب العالم الثالث لم يتغير كثيرا، والغرب عادة ما يحتفي بما تطرحه الكتابات العربية من نظرة سلبية تجاه مجتمعاتها المتخلفة، فموضوعات مثل الحريم وتعدد الزوجات وعوالم ألف ليلة وليلة والخصيان وختان الإناث والتخلف والفقر وكبت المرأة تجد من يحتفي بها ويعظم من شأنها. لقد قدمت وسائل الإعلام الغربية نجيب محفوظ بعد حصوله على نوبل على أنه (بطل وحيد في عالم خاو جاهل).
ولك أن تعود إلى رواية (بنات الرياض) التي كتبتها شابة سعودية في العشرينات من عمرها وكيف تلقفتها دور النشر الغربية وترجمتها إلى 20 لغة بعد أن حققت أرباحا بلغت نحو 500 ألف دولار أمريكي خلال شهر واحد فقط من توزيعها في الولايات المتحدة وأوروبا لمجرد أنهم وجدوا في الرواية كسرا لجملة من التابوهات لمجتمع شرقي ينفرد بسلطة الذكورة.
العمل الجيد هو الذي يفرض نفسه عاجلا أو آجلا؛ لذا سيكون من المناسب أن نلتفت إلى معايير الجودة والإبداع والصدق في الكتابة وندع الخيال (العالمي) إلى حينه.
أنت من جيل مزقته مرحلة حضارية جديدة لم يستقبلها مجتمعنا العربي بمقدمة نفسية في المستوى الحضاري الذي تدعمه أرضية فكرية معقولة، ثم كان هناك خيط النجاة الذي تلوح به الحياة امامكم، فتعلقكم بالقراءة والاطلاع بنهم وكانت لكم الريادة في التأصيل والتأسيس... ما تعليقك؟
الباحث الأدبي “روبرت فول” يؤكد أن الأجيال الأدبية لا تولد بطريقة تلقائية حسب الحقب الزمنية، بل إن الأحداث هي التي تصنع تلك الأجيال، فحقبة الستينات كانت مزيجا من الصحوة القومية، والمد العروبي الناصري لجيل انفتح وعيه على فترة الزهو والصمود، بدءا من ثورة 23 يوليو، ومفاهيم الوحدة القومية، ومناهضة الاستعمار، وتصاعد حركات التحرر الوطني عالميا وعربيا، ومخاضات الثورة الفلسطينية، ثم كانت هزيمة حزيران التي كانت هزيمة حضارية أكثر منها هزيمة عسكرية، وصدمة عنيفة رجت العقل العربي رجة عنيفة لجيل رأي أحلامه تنهار أمام أعينه، ثم البحث عن البديل عبر تبني الأفكار الماركسية وأفكار اليسار الراديكالي الجديد التي انتشرت بعد انتفاضة مايو 1968 في فرنسا وأوروبا
هذه هي الفترة التي تأسست فيها أسرة الأدباء والكتاب (1969) بكل عنفوانها السياسي والاجتماعي والفكري، لتمثل الصوت الأكثر وضوحا للحركة الأدبية الجديدة في البحرين، والحضور الأدبي الأكثر فاعلية وبروزا على المستوى المحلي والعربي.
عالم عبدالقادر عقيل القصصي والروائي ينقل لنا الحقيقة الكبرى، حقيقة الإحساس الداخلي للإنسان، واستطاع بعبقريته أن يجد المعادل الموضوعي الكامل للحالة النفسية التي يريد أن ينقلها للقارئ بحيث يحسها عند قراءتها... ما السر في ذلك؟
يقول ابن خلدون في مقدمته: (لا يكفي أن تصف موج البحر، وظهور السفن، حين تريد أن تتكلم عن حياة البحر. لابد لك أن تفهم ما في القاع، قاع البحر المليء بالغرائب والتيارات والوحوش. وقاع السفينة، حيث يجلس عبيد وملاحون إلى المجاديف أياما كاملة يدفعون بسواعدهم بضائع تحملها السفن، وثروات وركابا، وينزفون عرقا، وتتمزق أجسامهم تحت السياط).
أكتبُ عن أعماق الذات البشرية المتشظية، وهذا كالدخول في نفق طويل مظلم لا نهاية له، وحتى تصل إلى أعماق إنسان ما تحتاج إلى جهد كبير، ومعرفة واسعة، لا أحد يفتح لك قلبه بسهولة، ويجب أن تستغل أية فرصة لاقتحام عالمه، بعد ذلك، تواجه بالبحث عن الطريقة المناسبة التي تعبر بها عن كل ما تكتشفه في الداخل. إنها رحلة نحو المجهول. لذلك تكون الكتابة دائما مغامرة لذيذة.
هناك من يقول إن عطاء أبناء الجيل الحالي هو المهم، بينما يمكن أن نعتبر عطاءهم في الدرجة الثانية يعد عطاء الرواد؛ لأن الجيل اللاحق وجد الطريق ممهدا أمامه؟
كل جيل يصنع الإبداع حيث يكتب مبدعوه بروح العصر الذي يعيشون فيه، بمعنى أن كل جيل يضيف بقدر ما يمتلك من موهبة، وكذلك بقدر ما يمتلك من معطيات واقعية وتقنية، وكذلك بقدر ما يدور حوله من قضايا اجتماعية وسياسية، والعلاقة بين الأجيال هي علاقة تكاملية، وليست علاقة تضاد أو علاقة تفاضل.
هناك وضعية خطيرة جدا تتمثل في عدم الاهتمام بالصفحات الثقافية في الصحف والمجلات العربية كما كان في السابق، وهذا في تصوري يهدد الوضعية الثقافية والحياة الثقافية العربية.. هل توافقني؟
بالتأكيد، للأسف الشديد دائما ما تكون الصفحات الثقافية هي الأكثر تضررا، وهي الضحية الأولى والسهلة التي من الممكن تقزيمها أو تحجيمها أو التخلي عنها، خصوصا في ظل الواقع المجتمعي الذي يهمش الثقافة، وفي ظل الأوضاع المالية الخانقة، وشح الإعلان التجاري، والمنافسة القوية التي فرضتها المواقع الإلكترونية والمدونات الشخصية، مما جعل من الصفحات الثقافية شيئا زائدا عن الحاجة، وهذا أمر مؤسف للغاية في بلد كانت كل صحيفة فيها تتنافس بملاحقها الثقافية التي تصل إلى ثماني صفحات.
الثقافة هي الركيزة الأساسية للتنمية الشاملة، هذا هو المصطلح العصري الذي نعيشه من خلال ما يحظى به القطاع الثقافي عموما من دعم ورعاية من قبل الحكومة لاسيما وأنت قد شغلت منصب مدير إدارة الثقافة والفنون. حبذا لو تطلعنا على واقع وآفاق السياسة الثقافية في بلادنا؟
مشكلة الثقافة أنها لم تكن أبدا ضمن أولويات النمو الاقتصادي والاجتماعي؛ لذا كانت، ولا تزال، تعاني من الإهمال والقصور، فما دمنا لا نعترف بأن النمو الاقتصادي بحد ذاته لا يعني الحضارة والتقدم، وأنه لا سبيل إلى تحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية، بكل مقوماتها، دون التنمية الثقافية، فستظل الثقافة في أسفل قائمة الاهتمامات.
وعلى مدى العقود الماضية طُرحت في البحرين العديد من الرؤى المستقبلية، التي تحتوي على خطط وأفكار لتحرير الاقتصاد من الاعتماد الكلي على النفط، لكن هذه الرؤى لم تتطرق إلى الثقافة بوصفها أداة فاعلة رئيسة من أدوات التنمية الشاملة، بل مازال ينظر إليها على أنها أنشطة (ترفيهية) و(كرنفالية) و(فنية)، يمكن الاستغناء عنها حال تغير الأحداث، وهي لا تكون أبدا في مستوى الرؤى السياسية والاقتصادية، وهذا ما يبرر الفوضى والضعف في القرارات الثقافية. وهذا ما أدى إلى أن يكون صوت الثقافة يبدو خافتا، وصوت المثقفين أكثر خفوتا، مما يدعونا للمطالبة بإعادة النظر في مفهوم الثقافة، ومحاولة تحديد موقعها في حياة الشعب البحريني بكل مكوناته وأطيافه.
هناك أمر ملاحظ وهو قلة المجلات المتخصصة بالطفل في البحرين.. ما سبب ابتعادنا عن إصدار مجلات لأطفالنا المتعطشين للثقافة بكل ألوانها، ولماذا لا يكون عندنا مركز لكتب الأطفال يهتم بالدراسات والبحوث والتخطيط لكتب ومجلات الطفل، ويعمل على تشجيع الكتابة للأطفال ماديا وأدبيا وفنيا، ويقدم حوافز لمؤلفي كتب ومجلات الأطفال؟
من المؤكد أن أدب الطفل لا يمكن أن ينتعش دون وجود ثقافة جادة تتوجه إلى الطفل، وهذه الثقافة لن تأتي بالنوايا الطيبة، ولا بالجهود الفردية لهذا الكاتب أو ذاك ممن يهتمون بالكتابة للأطفال، المطلوب وضع خطة وطنية شاملة لثقافة الطفل.
من الحقائق المسلم بها أن التجديد والتطور هو سنة الحياة، ومعاندة هذه السنة إن أمكنت فإنها تعنى الجمود، والجمود موت بطيء. ما أوجه التجديد في الأدب البحريني؟
الحركة الأدبية في البحرين بحاجة دائمة إلى دماء شابة تجدد الحياة، واعتقد أن الظروف الآن مؤاتيه أكثر من ذي قبل لظهور التجارب الجديدة، والأهم من كل ذلك أن الصوت الجديد الآن لن يجد نفسه مكبلاً بتشابكات الصراعات الفكرية والرؤيوية التي انهكت الجيل السابق، وانعكست سلباً حتى على العلاقات الإنسانية بين أصحاب الهم المشترك، وبدلاً من أن يتحول الصراع الفكري والأيديولوجي إلى ورشة للحوار والتفاهم تحولت إلى ساحة حرب شعواء طالت حتى الأخلاق والشرف والانتماء للوطن، كل هذا من أجل الوصول إلى تفاهم حول مسائل أدبية وفكرية هي في حقيقة الأمر مسائل تجاوزها الزمن في ذلك الوقت. انني اعتقد أن الظروف التي يعيشها الكتاب الشباب اليوم أفضل بكثير من تلك التي جربناها.
الترجمة مهنة وفن وليست مجرد نقل عبارة من لغة اجنبية إلى اللغة العربية.. هل تسير الترجمة في البحرين في مسارها الحقيقي؟
إن الترجمة الأدبية الإبداعية من أكثر جسور التواصل الإنساني الفعال بين ثقافات الأمم وحضاراتها، ولا شك أن ترجمة النصوص الأدبية، بما تحمله في ثناياها من مكونات ثقافية وحضارية، تعد آلية من آليات مد الجسور بين مختلف الثقافات، ونشاطاً فكرياً يخدم التواصل بين الأمم، ويساهم في تكريس مفهوم الحوار بين الحضارات. لكن للأسف لا توجد بيئة تشجع على الترجمة، ولا مؤسسات ثقافية تعني بهذا الفن، وتحل المشكلات التي يواجها القلة من المترجمين المحترفين، بدءاً
من حقوق الملكية الفكرية، والتكلفة العالية التي تطلبها بعض دور النشر، وما ترجم حتى الآن كان عن طريق مترجمين على مستوى فردي
أخيرا... في قلب العاصفة الهوجاء وهذا العالم المجنون... بماذا تحلم ؟
كتب الباحث الشاب هشام عقيل في بحثه الرائع “النص الفصامي” عن القصص التي أكتبها بأنها نصوص فصامية ناجمة عن عقل فصامي، عن كائن في أزمة دائمة، لا لأنه يبحث عن معنى مفقود، لا لأنه يشعر أنه ضائع، بل لأنه يبحث عن الفراغ التام، حالة يكون فيها غير محاط بكل الظروف التي تحول دون أن يكون قادراً على أن يتكلم بشكل أبدي. لك أن تسأله ما هي أحولك؟ سيجيبك: سأكون بخير لألف عام، أيمكنك أن تتركني وشأني إلى ذلك الحين؟.