يكثرون عليك قبلة، وأنت توزع كل الشفاه. يتمتمون ويرقصون مع الفرح وأنت نائم على رصيف عذاب. يسهرون عندما تكون محشورا في زاوية الغياب. يضحكون وأنت تربت على كتفي دمعك وتواسي جفنك وتخيط لك من المناديل قطع ثياب. تبتسم ابتساماتك وهي في الأصل عتاب. يتبادلون الهدايا ودعوتك منسية، وأنت رفيق الضباب. يقول ديستوفيسكي أديب روسيا الأعظم “الزهور التي ستشتريها عند زيارتك لقبري لا داعي لها، ولا داعي أن تبكي فوق رأسي. اشتري ساندويتش، وأعطيه لحارس المقبرة”. هكذا هم عظماء المجد: تكدس غربة، غدر قدر، استحالة حضن دافئ إلى أفعى، وسوسة حنين تنخر في شجر غابة قلب على موعد مع الاحتراق. قليل هم من يجدون الرثاء الصادق كرثاء نزار قباني لحبيبته بلقيس أو لابنه توفيق الذي رثاه في قصيدة مرتلا “مكسَّرةٌ كجفون أبيك هي الكلمات، ومقصوصةٌ كجناح أبيك هي المفردات، فكيف يغني المغني
وقد ملأ الدمع كل الدواة؟! وماذا سأكتب يا بني، وموتك ألغى جميع اللغات؟... لأي سماء نمد يدينا؟ ولا أحدا في شوارع لندن يبكي علينا.. يهاجمنا الموت من كل صوب.. ويقطعنا مثل صفصافتين فاذكر حين أراك عليا، وتذكر حين تراني الحسين. أشيلك، يا ولدي، فوق ظهري كمئذنة كسرت قطعتين”.
ورغم الحزن حلق نزار في السعادة، لم ينس العشق، وتجول في لندن، وسويسرا، والأندلس يبحث عن الجمال، تاركا حزنه لطبيب ماهر اسمه الزمن. يرمم نفسه بالطبيعة، ويحمى وعيه بالحضارة، وجمال الفن الإنساني. على عظيم المجد ألا يهندس نفسه في إطار بشري أو يخنق وجوده في زقاق فكري أو حزبي. عنوانه ألا يكون له عنوان، لا هو بتقليدي، ولا هو حداثي، ولا كلاسيكي، ولا رومانسي أو ماضوي أو انطباعي أو سريالي، لا هو شرقي ولا غربي، هو “فخفخينة” حضارات وكوكتيل بشري يبحث عن الجمال.
لا تخنقوا أنفسكم بعين امرأة، ولا بمدينة جميلة أو بريق منصب أو بتضخم رصيد مالي أو شهرة قاتلة أو مجد متآكل، بل خذوا من كل ذلك قطعة لتبنوا مجد سعادتكم عبر كوكتيل الحياة كما يقول الشاعر الفرنسي بودلير في قصيدة السُكْر “اسكروا.. كي لا تكونوا ضحايا معذبين للزمن لابد لكم من أن تسكروا بلا هوادة. ولكن بماذا؟ بالسكر أو بالشعر أو بالفضيلة، بحسب ما تهوون ولكن اسكروا”.
التعلق بالأشياء هوسا وجنونا هو مرض سيكولوجي نكابر على معرفته وعلاجه. هو تحايل لترميم شيء انكسر بداخلنا في طفولة معذبة أو حرمان أم أو قسوة أب أو خنجر حب أو تعاسة تكدس مال أو غربة وطن أو خيانة حبيبة أو توحش قدر أو سقوط مجد أو توحش مرض.
كلنا معذبون وكل يجر وحشه الذي يأكل سعادته، ولكن قوتك أن تعالج نفسك بكوكتيل الحياة ولا تخطئ المسار في التعويض.
باولو نيرودا الشاعر الشيلي اللاتيني الفائز بجائزة نوبل، ماتت أمه وهو في الأشهر الأولى، فراح يبحث عنها في قلوب عشيقاته وكذلك هو بودلير.
حيانا نتلقط الحنان من العشيقة بحثا عن حب فقدانه صغارا من الأم. نحن لا نبحث عن حب الحبيبة بقدر ما نبحث عن حنان الأم المختبئ فيها، إنها حيلة دفاعية عن تصحر عاطفي داخلي بالتوسل على أبواب القلوب؛ أملا في الحصول على صدقات عاطفية قد تجرح كبرياءنا الكبير وجرحنا النرجسي النازف، على أمل أن تعيد شيئا من زجاج النفس المكسور.
كل أفعالنا، ونحن كبار، هي محاولات لتعويض ما تحطم فينا ونحن صغار. واسميها البحث عن “الملاك الحامي”، ومحاولة لاسترجاع “الطفل الصغير” بداخلنا، الذي دفناه بسبب ضياع بوصلة الحياة الحقيقية للسعادة الأبدية.
يقول نيتشه “في كل إنسان حقيقي يوجد طفل صغير يبحث عن المرح”، وتقول الأديبة الرائعة أحلام مستغانمي “استفيدوا من اليوم الحاضر، لتكن حياتكم مذهلة خارقة للعادة، اسطوا على الحياة، امتصوا نخاعها كل يوم، مادام ذلك ممكنًا، فذات يوم لن تكونوا شيئًا.. سترحلون وكأنكم لم تأتوا... ولذا عليكم أن تعيشوا الحياة كلحظة مهددة، أن تعوا أن اللذة نهب، والفرح نهب، والحب.. وكل الأشياء الجميلة، لا يمكن أن تكون إلا مسروقة من الحياة، أو من الآخرين.. فالمرء لا يبلغ المتعة إلا سارقًا في انتظار أن يأتي الموت ويجرده من كل ما سطا عليه”.
يا عظماء المجد، لا تستلموا للحزن، فإن الله في السماء وعلى الأرض كنوز جماله منثورة: طبيعة وثقافة وفن إنساني وأناقة ورياضة وحضارة وقارات. احزموا حقائب الأمل وسيحوا في الأرض بحثا عن الجمال، وكوكتيل الحياة.