العدد 3593
الخميس 16 أغسطس 2018
banner
زمان ليس لكم
الخميس 16 أغسطس 2018

قبل عشر سنوات تقريباً، حاول فريق من شركة دعاية وإعلان أن يقنعني بالاستعانة بهم لإحدى الخدمات، وكان من بين ما افتخروا بعرضه من أعمال، إعلان تلفزيوني لنوع من السيارات، مصحوبٌ بموسيقى ثقيلة مزعجة تثير أعصابي كلما أذيعت، وربما طافت بملامحي لحظة انزعاج عندما تذكرت الإعلان وسألني: “ألم يعجبك الإعلان؟!”، فقلت: “بصراحة؟ لا... لكنه يعجب ابني ذي الـ 17 عاماً”، هنا قال المندوب بنبرة انتصار: “أرأيت؟! هذا الإعلان ليس موجّها لمن هم في سنك، بل للشباب الصغار من سنّ ابنك لأن السيارة شبابية وهم الفئة المستهدفة”.

عرفت حينها كيف يمرّ الزمان فيأتي بالجديد دوماً، وسريعاً في أيامنا هذه... الزمان نفسه الذي كان محطّ التفات السابقين على الرغم من تباطؤ المتغيرات في زمانهم وتصوّرنا أنها شبه متوقفة وجامدة، ولكنهم دائماً يذوبون حسرات على أخلاق الزمان الذي مضى، وينكرون على أهل الزمان الذي صاروا إليه، ومثل هذا ما يُنسب إلى الإمام علي بن أبي طالب مرّة، وإلى سقراط مرّة، من قول مؤدّاه “لا تقسِروا أولادكم على آدابكم فإنّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم”، ومع الكثير من الجدل في نسبة القول، وصحّته أساساً وسلامة معناه، فإن الثابت أن زمان الآباء يختلف اليوم، تماماً، أو إلى الحد الأبعد، عمّا سيدرج عليه أبناؤهم، بل حتى في السنوات القليلة الفاصلة بين أخ وأخ في البيت نفسه، هناك تفاوت صار يتسع، وما عاد الحديث عن الفرق بين الأجيال، بل بين السنوات، فيشعر الإنسان أنه كبر وما عاد هذا الزمان زمانه عندما لا تعجبه النكت السائدة، وعندما يتباطأ تعاطيه مع التكنولوجيا، وترهقه الفجوة المتسعة نظراً لنقص لياقته الطبيعية في ملاحقة المستجدات، عندما تزعجه الموسيقى الحالية، ولا ينتمي للأغاني المذاعة في هذا الوقت، عندما يستسخف أعمال من يصغرونه سناً ولا يستسيغها وهم يرونها طبيعية جداً، عندما تكثر ملاحظاته ومقارناته بالمقولة المبتدئة بـ “على أيامنا...”، مع أن “أيامهم” تلك ليست سوى سنين قليلة مرّت، وليست عقوداً، ولكن التغيرات كبيرة، وعميقة ومذهلة تجعل الأيام تحبل وتلد مرّات ومرات وهي ليست سوى ساعات معدودات، ولكن كثافة التواصل والكمّ المعلوماتي الذي تحمله القنوات كافة بات بيانات بالغة الضخامة، ربما هي أكبر من حاجتنا الحقيقية لنعيش – كأفراد – بشكل يتناسب مع قدراتنا على هضم كل هذه المتغيرات، والاستفادة منها.

إنه دولاب الزمان نفسه، مشكلتنا معه فقط اليوم في سرعة دورانه، يحاول الناس الاحتفاظ بقواهم العقلية والجسدية، وصحتهم النفسية وانفتاحهم وتقبلهم الجديد، أطول فترة ممكنة، ولكن إيّاهم والغفلة والتباطؤ والاستراحة ولو لبعض الوقت، لأن هذا الدولاب لا ينتظر أحداً، بل يتربص بنا ليطوّح بنا خارج محيطه، وهذا دأب الزمان، لذا فمن المهم ألا نجهد أنفسنا بوضع العصيّ في هذا الدولاب لعله يتوقف عند اللحظة التي نتألق فيها، أو يتباطأ – على الأقل – ويمنحنا المزيد من القدرة على التقاط الأنفاس، فذلك لم يجدِ من قبل، ولن يقدّم حلاً، فما علينا إلا مجاراته ما استطعنا... ما استطعنا.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية