العدد 3544
الخميس 28 يونيو 2018
banner
قماش الجغرافيا والطبقات
الخميس 28 يونيو 2018

كثيراً ما يحتدم النقاش في الزيّ العام للناس (للمرأة تحديداً) وما الذي يُعتبر عيباً أو حراماً، عند الباعث لهذا الفكر ما إذا كان ديناً أم مجتمعاً، فهذه حالة من حالات المجتمع، والتي يشترك فيها مع عدد من المجتمعات الخليجية والعربية التي همّها أن تظهر كما تحبّ أن يراها الناس، لذا راج في الأمثال: “كُل ما تشتهي، والبس ما يشتهي الناس”، فليس مهمّاً ما تعتقده أو تفكر به، ولكن الأهم على المستوى العلني أن يتوافق الناس على ما يرون ظاهراً، وليس مهماً ما يدور في الباطن من قناعات.

هذا الأمر يختلط لدى الكثيرين (الكثيرات خصوصاً) بين السلطتين الدينية والاجتماعية، فالسلطة الدينية، المتمثلة في الأوامر والنواهي المباشرة، أو غير المباشرة التي استنبطها الفقهاء والمجتهدون، تتأثر – أكثر ما تتأثر – بالسلطة الاجتماعية، والتي هي الأهم سواء رضي الناس أم تجاهلوا هذه الحقيقة، فإن خضوعهم لها أكثر من خضوعهم للموجبات الدينية، وهذا يتبدّى سابقاً في احتجاب النساء عن الرجال ذوي المكانة، أو حتى الاعتياديين منهم، ولكنهن أقل احتجابا، أو احتشاماً أمام أصحاب بعض المهن التي يرونها مهناً دنيا مثل السقّاء، فيهملن شدّ أطراف الثوب على الوجه، كسلاً أو تعمّداً، وإن بقي رجلاً يجوز عليه ما يجوز على بقية الرجال، وفي هذا الزمان أيضاً، فإن القيود الاجتماعية تجاه الأجانب وخصوصاً ذوي المهن البسيطة حيث تصدر منهن أصوات ذات دلالة استخفافية، تبسيطية، تهوينية: “إلّا......!”، ويذكرن الجنسية بنوع من اللامبالاة، ولكن لأنه غريب فيمكنه أن يلمح ما يتبارين على تغطيته أو التظاهر بتغطيته لما لا يجوز أن يراه ابن الجيران، فتضعف القيود الاجتماعية الخاصة بمفهوم “الحشمة” كلما كان الفرد غريباً، وكلما كان المكان بعيداً جغرافياً.

فالجغرافيا هنا ذات تأثيرات اجتماعية خصوصا في المسافة بين الدوائر الحيوية للإنسان وقدرته على فعل ما يريد، ولبس ما يشتهي، فإحداهن لا تنزل الشاطئ بملابس البحر في بلادها لأنها ستكون أمام أعين مستنكرة وأيضاً متفحصة، مقتحمة، أكثر من غيرها، والأمر نفسه عندما تتحرى المصائف التي لا يقصدها العرب، لكي تكون براحتها، إذ (قد) يلمحها من يعرفها أو من يعرف أنها من بلده، أو أنها من ثقافته، أخرى تقول إن تخففها من الملابس يزداد كلما ابتعدت عن بلادها، تضحك منتقدة ما تفعله قائلة: “كأنّ عين الله هنا لا تراني هناك لأنني بعيدة!”، وهذا ليس موقفاً فردياً، فمن لم ير بعينه، لابدّ أنه سمع كثيراً عما يحدث من تغيير الملابس في الطائرات حالما ترتفع عجلاتها عن مدرج بعض المجتمعات المتحفظة لأن الجغرافيا تغيّرت، أو على وشك! ومع أن للرجال “فقها” خاصّا أيضاً بالسّمت الاجتماعي الذي يجب أن يظهروا عليه، ولكن المسألة عند المرأة نفسها، وعند نظرة المجتمع لها، تأخذ حجماً مضاعفاً.

مع التفاوت في المواقف والقناعات والإيمانيات، يبقى العامل الاجتماعي – بحسب الملاحظة – صاحب العمق الأكبر والمكان الأرحب في النفوس، وهو ما يُلبس الأفعال لباس القبول أو يعرّيها أخذاً بما يتوافق عليه الناس في المجتمع، وتتغير هذه القناعات عند الانتقال إلى مجتمع آخر له قناعات أخرى سواء كانت بالمزيد من التسامح القماشي أو التحفظ الاحتشامي.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية