العدد 3380
الإثنين 15 يناير 2018
banner
ناصر
الإثنين 15 يناير 2018

لم يعرف الوطن العربي شخصية جدلية في تاريخه المعاصر أخذت الحيّز الذي أخذته شخصية جمال عبدالناصر، ولم تُفجع الجماهير كما فجعت بفقده، لم تعرف هذا القدر من التطرّف والحماس في حبّه وبغضه، لم تعرف معنى الكرامة إلا بوجوده، وهذا ما تفتقده اليوم في ظلال العربدة الصهيو-أميركية، وكلّما ادلهّمت الخطوب، وتكاثفت في أجوائنا الغيوم، وأرعدت سماواتنا، افتقدناه، تحسّرنا على أنه ليس معنا، ليردّ عنّا، وبنا، ومعنا، ولنا، ما يحاك ضدّنا، وما لم تستطع كواهلنا حمله لشدّة ثقله.

لم يعرف الوطن العربي شخصية قيادية تستطيع تحريكه من أقصاه إلى أقصاه، تدفعه للتحرر، تخرج جماهيره في الشوارع غاضبة مستنكرة الاستعمار، كما لم يعرف الوطن العربي، من أقصاه إلى أقصاه، رئيساً عربياً توفّي فخرجت مسيرات الحزن في كل عواصمه إلا عبدالناصر، بل استمرّت هذه المسيرات في البحرين لسنوات تخرج في الموعد ذاته، تتخيله قد ارتحل للتوّ.

لم يعرف الوطن العربي شخصية قيادية يلتجئ إليها القادة في خلافاتهم، ويلتجئ إليها الناس في ظلاماتهم، حيث كانت ترسل إليه الرسائل لشرح ما يعانونه من نير الاستعمار، راجين منه التدخل وإنصافهم، فقد مثّل لهم دور الأب أو المخلّص، أو عمود الخيمة الذي ما إن وقع حتى غلبتنا شقوتنا... لا أحد يمتلك الكاريزما التي كان يملكها، ولم يسعف أحدهم الظرف الذي توفر له، فبقي متفرّداً في المكان والمكانة، وامتدّ على طول الأزمان بدراً يُفتقد في ليالينا الظلماء، وما أكثرها.

أحببناه كما هو، بكل ما فيه، بالنسبة لي ولجيلي، فإننا ورثنا هذا الحبّ، فمن يجرؤ على القول إنّ له وجهة نظر في جمال؟َ! سمعنا تالياً عن هناته، أخطائه، خيباته، انكساراته، قرأنا كتباً كثيرة وصفته بالخيانة، والعمالة، وسعت لإنزاله إلى الدّرك الأسفل من البشرية، لكن المحبين بقوا كما هم ثابتين على الإيمان به، وإن تشذّبت المشاعر الجيّاشة قليلاً، وصار الرجل، مع مرّ الزمان، قابلاً للمراجعة والنقد، ولكنه أبداً غير قابل أن يخوَّن أو يُطعن في وطنيته. قيل إنه كالنار التي تحرق ما حولها ولكنها تضيء للبعيد، استفادت من النور الذي أوقده شعوب عربية وغير عربية استقوت به، وبوقفته مرفوع الهامة، حادّ النظرة، وكأنه يتحدّر من نسل أبطال الأساطير... وقيل كثيراً عنه، ولكن بقي هو نفسه عبدالناصر، الذي تبع حلمه بلا كلل، وربما كانت الأثمان في ذلك عالية، وغالية، وغير مبررة، ولكننا نشهد اليوم أن حلم الوحدة العربية هو ملاذنا من الفتات الذي تذرونا به الريّاح... نفتقد، في مئويّته، عصراً كاملاً اكتظّ بالمفكرين والفنانين وتزيّن بالرُّقي، نفتقد ذلك الحماس لقضايانا من خلاله، نفتقد فيه ذواتنا ووجداننا، سنظل فقدنا فيك كبيراً يا ناصر.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية .