العدد 3327
الخميس 23 نوفمبر 2017
banner
البداية من مصطفى
الخميس 23 نوفمبر 2017

في إحدى المؤسسات التي عملت فيها، كان لنا زميل، سنختار له اسماً مستعاراً وهو “مصطفى”، فهو ذو شخصية فريدة في كثير من التصرفات، ومنها ما يلي... عندما استلم مصطفى راتبه في أحد الأشهر، اكتشف أنه ناقص ديناراً، فذهب إلى مدير الحسابات، ومدير الشؤون الإدارية والمالية، وحاججهما، واستخرج شهادة من البنك، حيث كانت الشهادة قبل ما يزيد عن ربع قرن من الزمان لها قيمة مالية وليست مجانية كما هو الحال اليوم في حركة الحساب التي يمكن استخراجها من الهاتف النقال. قضى مصطفى يومين ربما في هذا الجدل المستهلك للأعصاب، ظنّ زملاؤه في القسم أنه يتهرّب من العمل باصطناع مشكلة في مسألة ليست ذات شأن، فماذا يعني الدينار الواحد (2.6 دولار)، فهو بالكاد يشتري وجبة أطفال (في ذلك الوقت) من أحد محلات الوجبات السريعة؟! آخرون كانوا يرون مصطفى من البخل والتقتير لدرجة أنه يدقق في “دينار” نقص من الراتب، بينما الغالبية لا تدري بالضبط كم يدخل من الراتب وكم يقتطع منه للأمور المختلفة.

بعد هذه الجولة الصعبة من المفاوضات، قرر المسؤول الإداري إعادة الدينار إلى مصطفى، ربما لأنه اكتشف الخطأ الذي وقع فيه موظفوه، أو ربما أراد أن يغلق الباب ويلتفت إلى عمله. شعر مصطفى بالانتصار، ولكن نظرات زملائه وهمساتهم ظلت تلاحقه، وتتندر بهذا الموقف الغريب، والإصرار غير المنطقي بالنسبة لهم على هذا الأمر. مع مرور الأيام والسنون، تتساقط الكثير من الذكريات وتبهت وتمحي، ولكن قصة مصطفى من القصص التي لا تغادر الذاكرة، وكلما اجتمع أصدقاء تلك المرحلة وقلّبوا الذكريات، قفزت إلى الأمام قصة مصطفى، ولكن لو أردنا النظر إلى المسألة بشكل أكثر جدّية، لرأينا أن السواد الأعظم من الناس هم ممن ينتقدون تصرفات كهذه من الموظف، بينما لا يحاسبون من يخطئ في حقهم المادي، فالقصص التي نسمعها كثيرة عن من أثروا بسرقات بالغة الصغر لعدد لا متناهي من الناس، وعلى فترات طويلة، بحيث لا يشعر المسروق بالسرقة.

الأمر نفسه ينطبق على التحوّلات الاجتماعية المتحرّكة نحو ما لا نعرفه ولا نقرّه اليوم فِتراً فِتراً، حتى نرى بعد سنوات من السكوت وعدم تكبير المسألة لأنها صغيرة و”لا تستاهل” كل هذه الضجة، بأننا صرنا في وسط النهر، ولا نملك إلا الاستمرار في عبوره حتى يصل الماء إلى الأذقان قبل أن يغرقنا لأننا لم نقف منذ البداية بصلابة لنعرف إلى أين يأخذنا الإعلام، والتعليم، والعولمة. كلما اعتاد الناس تدريب ألسنتهم على أن تكون حادّة في “الحق”؛ كلما انكمش الخطّاؤون، وقللوا من استغفال البشر واستهبالهم.

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية