العدد 2822
الأربعاء 06 يوليو 2016
banner
تجذر التطرف في الفضاء الديني العام
الأربعاء 06 يوليو 2016

مع شيوع خطاب داعش في طول العالم الإسلامي وعرضه، دون أن يحظى بمناقشة تفصيلية من قبل المؤسسات الدينية الرسمية سوى البيانات التي صدرت من الأزهر وهيئة كبار العلماء ومنظمة العالم الإسلامي، إلا أنها تدخل في حيز رد الفعل والتجريم لتفشي خرائب “داعش” على الأرض، وليس تتبعًا لجذور الأفكار التي يصدرون عنها، وهو الأمر الذي يجب أن يتولى حمله عمل مؤسساتي وبحثي ضخم.
من المحزن جدًا ونحن نشهد حضور داعش السريع في القارة الهندية بعد أن حاولت إيجاد مواطئ قدم لها في آسيا، والمدهش أن من يقارع تنظيم داعش من الناحية الفكرية هو تنظيم القاعدة وكانت آخر مبادرة من لدن أيمن الظواهري عراب عولمة القاعدة وتعميم جرائمها بعد أن كانت حبيسة الظرف الأفغاني، وأصدر أكثر من عشر ساعات متلفزة لمناقشة شرعية داعش وانحرافها عن نهج “الجهاد”، وهو أمر لم نر له نظيرًا في رموز الإسلام السني الرسمي أو السياسي لأسباب متباينة، بسبب تشابك مسائل باب الجهاد، ومفهوم الحرب والسلم والتفكير والردة داخل المدارس الراديكالية التي لم تحسم مراجعتها لهذه الأبواب بعد انفجار موجة التكفير والإرهاب في نهاية السبعينات، وساهم استغلال الإسلام السياسي لملف الإرهاب لصالحه في تغييب المراجعة الفكرية وتضخيم الذرائعية السياسية ومحاولة خنق الحكومات على طريقة المعارضة لكن بشعارات دينية وأهداف سياسية. قبل عشر سنوات تحدث محمد العبدة الداعية المنسوب لتيار السرورية الحركية المنشقة عن الإخوان، التي تمكنت من تسيد المشهد الخليجي في التسعينات عبر تثوير الراديكالية التقليدية وشيطنة الإخوان المسلمين، واختطاف المشهد والفضاء الديني العام، تحدث عن ضرورة تدشين حقبة جديدة في تاريخ جماعات الإسلام السياسي، هي حقبة “ما بعد الجماعات”، والتي عنون بها مقالته التي نشرها في موقع “الإسلام اليوم” على الإنترنت، والتي تهدف إلى محاولة استعادة “أمة لم تعد لها كلمة مسموعة، وليس لها ثقل سياسي تفرضه على الآخرين”، هذه الحقبة في نظر العبدة يجب أن تتجاوز أخطاء الماضي التي وقعت فيها هذه الجماعات، وأهمها من وجهة نظره “جراثيم الحزبية” التي يعتبرها مرضًا عضالا “أضر كثيرًا بالجماعات الإسلامية، لأن الفرد داخل الجماعة يُقال له: منهجنا هو الأصوب” وبالتالي “سيكون إنسانًا منغلقًا متعصبًا لجماعته، لا يقبل بسهولة ما عند الآخرين، والطريقة الحزبية تكون دائمًا لاهثة وراء كسب الناس، فإن لم ينصتوا إليها تقوقعت على نفسها واتهمت الآخرين”. ويضيف العبدة لهذه الآفة مشكلة “القيادة” الديكتاتورية التي تعامل الأتباع على مبدأ الانقياد والتبعية، فـ”الذي يتقرب من المسؤول أو على الأقل يسكت، فهو المرضي عنه ويصعد إلى أعلى المسؤوليات، وأما الذي يناقش ويسأل فهو مشاغب غير منضبط، ولا يفهم السرية والعمل الحركي، ويجب أن يُفصل!”، ولا تقتصر خطورة القيادة المتسلطة على تذويب الأفراد لتنصهر داخل عقلها الجمعي بل يتجاوز ذلك إلى إجهاضها لكل تساؤل أو اختلاف مع منهج الحركة. العبدة، مع آخرين ممن كتبوا مراجعات للحركة الإسلامية المعاصرة من الداخل، يلامسون المشكلة في أطرافها وعرضها ولا يتناولون جوهرها، فنقدهم لا يتجاوز رصد ظواهر مرضية مع إغفال جذور العطل في الأسس التي قامت عليها هذه الجماعات، والتي أعادت إنتاج الإسلام وفق رؤية صدامية آيديولوجية، تستمد جذوتها من شعارات طوباوية مفترضة.
جحيم الإرهاب قد يبدأ بشرارة صغيرة، تبدو للوهلة الأولى مجرد تطرف فكري أو اختيار فقهي متشدد، في حين أنها تعبر عن رؤية مأزومة للذات والعالم، من السهل أن تتحول من موقف نظري إلى انخراط في عمل تخريبي متى توفرت الشروط الأخرى، زمانًا ومكانًا وتمويلاً، ومتى غاب الرقيب العائلي وحضر المحرض والداعم اللوجستي، الذي يسهل انخراط الفرد في التنظيم أو انتقاله إلى أي من بؤر التوتر ومحاضن العنف.
دورة الإرهاب تعيد نفسها كحتمية لحالة الكر والفر ما بين الجماعات المتطرفة والتعامل الأمني مع ظاهرة ذات أبعاد فكرية وثقافية، مازالت قادرة على أن تنتج انتحاريين جددا ينتهزون الفرصة التي تحقق لهم حلمهم الذاتي بالدخول في سلك التضحويين للفكر القاعدي الدموي. متى تم تجنيدهم، وكيف تفخخ عقولهم قبل أجسادهم، وما علاقاتهم بالخطاب الديني السائد؟ هذه أسئلة غائبة ومغيبة ليس فقط من المؤسسات المعنية بالمتابعة الأمنية بل حتى من المثقفين الذين انشغلوا بقراءة موضوع “العنف المسلح” من الخارج، وسرعان ما تشكلت تيارات فكرية متصارعة في فهم وتحليل الظاهرة حيث ساهمت في تغييب هذه الأسئلة من خلال توظيف وإسقاط خلافاتها القديمة وآيديولوجياتها المتناحرة وموقفها السياسي من القضايا الراهنة، وهو الأمر الذي أدى بدوره إلى تعقيد آليات التعامل مع ملف الإرهاب الذي بدأ الآن يكتسب قوته من أتون هذه النزاعات المتقدة. يمكن التدليل على ذلك من خلال رصد وتحليل ردود الأفعال تجاه العمليات الإرهابية، فصحيح أن موقف الأنظمة والمؤسسات الدينية الرسمية مازال يراوح مكانه، لكن هناك برود شعبي تجاه ظاهرة الإرهاب التي أصبحت شأنًا اعتياديا وخبرًا نجوميًا تتسابق الفضائيات والصحف في تصديره.
لا شك أن مشهدنا الفكري قد تلوث كثيرًا بفعل الرعونة والنرجسية في التعامل مع الواقع الذي يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم وهو بهذه الوضعية غير مؤهل لإنتاج خطاب ديني إصلاحي غير مصلحي مضاد للخطاب الديني المتطرف، الأمر الذي يتطلب جهودًا مضنية واستراتيجيات طويلة المدى للخروج من هذا النفق المعتم. الشرق الأوسط.
 

صحيفة البلاد

2024 © جميع الحقوق محفوظة, صحيفة البلاد الإلكترونية